في عروضه المتنوّعة، في مهرجانات دولية كبرلين وكارلوفي فاري، وأخيرًا في سينما "زاوية" في القاهرة، يُعرَّف "الحلم البعيد" للمصري مروان عمارة والألمانية يوهانا دومْكي بأنه "وثائقي"، مع أنّ فيه مساحة تلاعب وتجريب وحركة حرّة بين التوثيقي والروائي. هذه ميزة تجعله عملاً سينمائيًا طازجًا، يقدّم معالجة مختلفة لموضوعه، وإن تكن الميزة غير كاملة، بينما الاختلاف لم يذهب بالتجربة إلى الأبعد والأصدق.
تدور أحداث "الحلم البعيد" في شرم الشيخ المصرية السياحية، متتبعًا حياة شخصيات عديدة تعمل في مهن هامشية: عاملة تنظيفات في فندق، ومتخصص بالتدليك، بينما هناك من يدهن جسده بالأسود كأنه أفريقي ويقف في مدخل فندق مرحبًا بالقادمين، وهذه أغرب المهن. أما زمن الأحداث، فعائدة إلى فترة تأثرت فيها حياة هؤلاء الشباب بسبب ضعف الإقبال السياحي على المدينة، جرّاء العمليات الإرهابية المتكاثرة حينها في سيناء، بعد عزل الرئيس السابق محمد مرسي.
تكمن إحدى معضلات تصنيف الفيلم في انقسام شخصياته: هناك من يُقدِّم نفسه فعليًا، رغم أنّ المشاهد مكتوبة ومُدرَّب عليها، مع أن قصصهم حقيقية؛ وهناك من يغيّر في تفاصيل حياته ومهنته وطباعه، أيًا يكن السبب، فيُصبحون "ممثلين" لشخصيات أخرى في عمل روائي، ما يُخرج "الحلم البعيد" منطقيًا من خانة التوثيق.
هذا الجدل ليس "شكليًا"، ولا يُحصر في تسميات مجرّدة، لأنه يرتبط بكيفية استقبال الحكايات والشخصيات المُقدَّمة في الفيلم، والتفاعل معها. من ناحية أخرى، يعطي مساحة أكبر لـ"نقد" السيناريو الموضوع سلفًا، وكيفية تحريك الفيلم. فهناك بناء مرسوم، وشخصيات تتحرك بإدارة مخرج ومدير ممثّلين، بوعي كامل وغير مُدارى بالكاميرا، فهذا ليس متابعة لحياة ارتجالية.
والفيلم، باحتمالاته الواسعة للتفاعل مع أبطاله، لا يأخذ غير السطح، وهذه أزمته الكبيرة. إنْ يكن طابعه وأسلوبه واختيارات مخرجَيه عدم سرد قصّة بشكل خطّي متعارف عليه، فإن الصلة الأقوى بالفيلم كامنة في الشخصيات وقصصها وأماكنها وأحلامها، ومشاعر القلق والحسرة التي تمرّ بها في ظلّ وضع اقتصادي متدهور. لكن "الحلم البعيد" لا يقترب بشكل حقيقي من أبطاله، بل يأخذهم كنماذج متحرّكة في تلك البقعة السياحية المهجورة.
في 90 دقيقة، لا يذهب الفيلم إلى أبعد من فراغ المدينة والأزمات النظرية للشخصيات، من دون المسّ بهم حقيقة، أو بخصوصية مشاعرهم. إذا جُرِّد الفيلم من أي تصور أو تعريف مسبق عنه وعن سياقه وأشخاصه، وإذا نُظر إليه كفيلم "تجريبي" أو "عبثي" متأثر بأفلام الإسباني لوي بونويل، كشخصية القرد المتكلّم الذي يتحدّث مع الشخصيات، فإنه ليس جريئًا كفاية في التحرّر من الواقع، كأنه عالق بارتباك بين أكثر من شكل وأسلوب سينمائي، من دون أن يأخذ أيّا منها إلى آخره ويكون مخلصًا له.
نتيجة هذا كلّه، أن "الحلم البعيد" فيلم "مختلف" فعليًا. لكن الاختلاف غير مرتبط بجودة أو تميّز.