منير بشير: معمارٌ يشيّده الهُزام

07 ديسمبر 2018
الصمت عند منير بشير مجال حيوي (نيك ويلر/Getty)
+ الخط -
عند أول الضرب على العود، يُجلسك منير بشير في حضرة العازف. والعزف صوت الجِن عند العرب. يشدّك بريشة نحو أرض المقام، وفي آن، ترميكَ راحة يده في بحر التأمل. يدعوك إلى دار شيّدها بالصوت وبالصمت. عمّر طبقاتها بالذوق. زرع جنائنها حسّاً. جعلها منزلاً للروح، ومستراحاً للباحث عن الكينونة.
لم يكن حديثاً على أهل العراق، والموصل تحديداً، تميّزهم بالموسيقى. عازف العود إسحق الموصلي، وتلميذه زرياب، قد أسّسا للخلَف، وضعا جذوراً راسخة، استمرت منذ زمان هارون الرشيد. رغماً عن كل الخراب الذي ألمّ بأرض النهرين، منذ استباحة أبناء هولاكو بغداد في القرن الثالث عشر، مروراً بمكتب بول بريمر في المنطقة الخضراء.
فضْل بشير الأكبر يتجلى في تحرير الموسيقى العربية من سطوة الغناء الذي هيمن منذ العصر الواسطي، وإعادة إحياء "الآليّة" التي احتضنها البلاط العباسي، في غابر زمان التقدم الفكري والتقني، إبان القرن التاسع الميلادي. فبعود منير بشير، تؤدي الموسيقى دورها بجلال، من حيث هي تجاوزٌ للغة، وصولاً إلى المجاز المطلق، أقصى الشعر، المتجرّد حتى من الحروف. تقول ما لا يُقال وتوحي بما لا يُصرَّح به.

عود أبدي
لارتجال منير بشير بناء فكري، أفقي ومتّسق. يبدأ من روح المقام وينتهي به، في مخطط ثلاثي يذكّر بموسيقى "الراغا" الهندية؛ إذ تولد الموسيقى من رحم الهدوء، لتمر بتسخين شعوري، ما إن يبلغ العتبة الحسية، الوجد، حتى يرجع إلى الهدوء؛ في عود أبدي، يشبه الحياة، كما رآها نيتشه. يستهله بشير من منطلق مقام "الهزام"، أي قراره؛ علامة السيكاه. والسيكاه نغمة قلقة بحكم تموضعها ثالثةً على السلم الموسيقي، تتأرجح بين بعدها عن الثانية، الدوكاه، وتوقها إلى الرابعة، الجهاركاه.
وحين يتخّذ الهزام من التأرجح مستقراً له، ينفتح على قلق وجودي، يكتفي بالسؤال جواباً عن السؤال. فيهتز الكون باهتزاز الوتر. يعيد بشير ضربه مرّات ثلاثاً، بريشة مائلة رخيمة، كمن يسأل: من أنا، ما أنا.. ولم أنا؟
الصمت عند بشير مجال حيوي، مثلما هو فضاء صحن المسجد في العمارة الإسلامية، ومثلما هو البياض بين الحروف في الخط العربي. فالصوت، كالمادة إزاء العدم، والظاهر إزاء الباطن، يحلّ في الصمت ويسعى إلى التماهي معه بغية وحدة الوجود وزوال الحدود. في اختلاف عن ثنائية ديكارت ومن سار عليه من قادة التنوير الغربي، والتي تقوم على تمايز الروح عن الجسد والفراغ عن الكتلة. يُحقق بشير ذلك أولاً، عن طريق محاكاة الصدى، فيكرر ذيول الألحان مع خفض متدرّج لشدّة الصوت حتى تتلاشى. ثانياً، بتزلّج الأصابع على مقبض العود، تتناهى النغمات حتى تَحُلّ بالصمت. كما تزول الفواصل بين الهواء ونتوء الحجر من مقرنصة قبّة الأختين في قصر الحمراء في غرناطة، أو أعلى بوابة البيمارستان النوري في دمشق.


انعطافة نحو الصّبا
يسير بشير في بناء ارتجاله على مبدأ الوحدة والتمحور حول المقام، وذلك أصلٌ من أصول المدرسة العراقية في فن التقسيم. فهو، وإن جال بين المقامات، عجمٌ حيناً وحيناً رست أو حجاز كار، إلا أنه يعود دوماً وبمهارة لا تُضاهى، إلى إدراك علامة السيكاه؛ قرار الهزام المضطرب، في ربط أفقي للبنية، يُحقق التجانس. وكأن به يُطلّ من علٍ، على حاضرة من حواضر الشرق، كبغداد أو الموصل. يرى العمران يمتد مدىً أفقياً، أرضياً، ناسوتياً. يتحاشى معه الارتقاء، وحاشاه، ما عدا المآذن، نحو ملكوت السماء.



الأبعاد بين النغمات intervals عند منير بشير نسبية متحركة. وليست ثابتة أو مطلقة، كما هي الحال في الموسيقى الغربية، والتي ترسخت بغرض بناء الانسجام العمودي بين الأنغام. ولا هي متأطّرة ضمن هوية نغمية محلية. كالهوية المصرية ذات البعد المنخفض flat micro tone، أو الهوية المغاربية، "المالوف"، إذ يرتفع البعيد حتى يكاد ينقلب بُعداً كاملاً. فبشير، ابن الموصل، هناك حيث تربى على تراتيل الكنيسة السريانية، وعزف الساز الكردي. والمتتلمذ على عود التركي الشريف محي الدين حيدر، إضافة إلى كونه واسع الثقافة، بحكم دراسته الأكاديمية للعلوم الموسيقية Musicology. كل ذلك جعل منه متحكّماً بأبعاد وبعيدات المقام. يطوّعها بحسب الشحنة العاطفية المبتغاة، أو الحمولة الفكرية المنشودة. بهذا، يصل بشير إلى إحداث مقاماته الخاصة، الحاضنة للتراث، وفي آن، المتحررة منه. الشيء الذي يجعل من لونه المقامي، متفرّداً، أصيلاً ومنفتحاً على الحداثة، بشيري الهويّة.
في بغتة عن المسامع، وقبيل حلول الخاتمة الهزامية، ينعطف بشير نحو مقام الصَبا. والصَبا هو الشوق عند العرب. وريح تهب من حيث تُشرق الشمس. وكأن منير، وفي غمرة التأمل في الكينونة، يتذكّر العراق. هو الذي أقام في منفىً غربيٍ بعيد، اقتضاه جهل الشرق وقهره وحروبه. للصَبا حين يصدر عن ابن العراق أثر أشد. أنين حميمي خاص، وآه وجع كربلائي. حنين على حنين وأسىً على أسى. هو الحزين أبداً، وإن أصابته بهجة. وهو المشتاق دوماً وإن كان، إلى حين، على لقاء قريب مع الفرات أو دجلة.
دلالات
المساهمون