بعد 8 أشهر على احتفاء بيروتي أول بسينما أردنية، تستمرّ في إنجاز أفلامٍ، قابلة لأن تكون ركيزة أساسية لصناعة سينمائية متكاملة، تُنظِّم "دار النمر للفن والثقافة" (بيروت) مُجدّدًا، بالتعاون مع "الهيئة الملكية الأردنية للأفلام" (عمّان)، شهرًا ثانيًا للأفلام الأردنية، تُعرض فيه 3 وثائقيات وروائي واحد، مُنجزة كلّها بين عامي 2011 و2014. وإذْ يتخصّص يناير/كانون الثاني 2019 بأفلام روائية أردنية، مُنتجة بين عامي 2011 و2016، فإنّ للوثائقيّ حضورًا أكبر في أغسطس/آب 2019، تكشف أفلامُه تفاصيلَ وحكايات مرتبطة مباشرة بأفرادٍ منتمين إلى الاجتماع الأردني، وببيئة يختلط فيها الفلسطيني بالأردنيّ. وفي مقابل طغيان الاجتماع الأردني في 3 أفلامٍ، فإنّ الأردن مختفٍ من المناخ الدرامي والإنساني والثقافي والفني في الفيلم الرابع.
التجربة السابقة ـ المتمثّلة بـ"الجمعة الأخيرة" (2011) ليحيى العبدالله، و"لما ضحكت موناليزا" (2012) لفادي حداد، و"ذيب" (2014) لفادي أبو نوار، و"انشالله استفدت" (2016) لمحمود المساد ـ مُثيرة للتنبّه إلى حساسية سينمائية تبحث عن نتاجٍ عربيّ يغيب في البرمجة التجارية اللبنانية، وإنْ تحتمل أفلامٌ عديدة عروضًا تجارية، مفتوحة أمام الجمهور. ورغم أنّ أفلامًا مختارة في الاحتفالين البيروتيين تمتلك، بشكلٍ أو بآخر، بُعدًا جماهيريًا، وإنْ يبقَ متواضعًا، تظلّ تجربة "العروض الثقافية"، إنْ صحّ التعبير، مناسبة مطلوبة لتفعيل تواصل بين مشاهدين ونتاجات سينمائية عربيّة، ومُثيرة للاهتمام، بما فيها من اختلافٍ في آليات اشتغالها.
المشترك بين الاحتفالين البيروتيين بأفلامٍ أردنية ـ يُحقِّقها مخرجون يجتهدون لبلورة أفق سينمائيّ أردني عربيّ، وفقًا لما يملكونه من أدوات ومخيّلة ورغبات وحساسيات وهواجس وتساؤلات ـ كامنٌ في حضور يحيى العبدالله، أحد المخرجين الأردنيين "المتورّطين"، جماليًا وفنيًا ودراميًا وإنسانيًا، في صناعة فيلمية أردنيّة، توازن بين نقاشٍ دراميّ لأحوالٍ وتفاصيل وتحدّيات، وأشكالٍ بصرية تُلغي كلّ حدّ فاصل بين الروائي والوثائقي في أكثر من فيلمٍ وثائقيّ له، بينما يغوص الروائيّ معه في أعماق ذاتٍ وروح وعلاقات، ترصد بمواربة أحوال الاجتماع وناسه.
ففي "شهر الأفلام الأردنيّة" في يناير/كانون الثاني 2019، اختير الروائي الطويل "الجمعة الأخيرة". وفي الاحتفاء البيروتيّ الثاني بتلك الأفلام، في أغسطس/ آب 2019، اختير وثائقيّ بعنوان "المجلس" (2014)، الذي يغوص في أحوال مدرسة فلسطينية في منطقة "السخنة" (الزرقا الأردنية)، متابعًا مسار تلامذتها الراغبين في إجراء انتخاب طالبيّ يكشف، في الوقت نفسه، جوانب من يوميات تلك المدرسة، وعلاقة التلامذة بالإدارة والمعلّمين، وحضور الـ"أونروا"، المُشرفة أصلاً على المدرسة. كما يطرح ـ بشكلٍ غير مباشر ـ أسئلة عن الواقع الفلسطيني ومصيره، وعن العلاقة القائمة بين الفلسطيني والأردنيّ.
وثائقيّ يحيى العبدالله يستند، في سرده الحكايات وتصويره الحالات، إلى نَفَسٍ روائيّ مبطّن، يؤدّي إلى تشكيل مرايا تحكي وتبوح وتكشف، بسلاسة محمّلة بكمّ هائل من الغليان والتطلّعات والوقائع. وثائقيّ يختلف عن "الجمعة الأخيرة"، الذي يكشف وجعًا وحبّا وهواجس، بعضها موغل في نبض المجتمع وعوالمه المختلفة. وإذْ يُعرض "المجلس" مساء الأربعاء، في 14 أغسطس/ آب 2019، فإنّ "شهر الأفلام الأردنية 2" يُفتتح، مساء الأربعاء في 7 أغسطس/ آب نفسه، بالوثائقيّ "حضور أسمهان الذي لا يُحتمل" (2014) للفلسطينية عزّة الحسن ("ضفة ثالثة" في "العربي الجديد"، 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015). فيه، تُقدّم الحسن شهادة إنسانية خاصّة بها إزاء أسمهان. الكاميرا معها رسالة موجّهة إلى الفنانة، والعدسة محاولة حثيثة لبلوغ شيء من صفاء ذاتي في مقاربة حكايات كثيرة ومُتشعّبة. البناء الفيلمي مرتكز على تبسيط تقني ـ فني متمثل بلقاءات مع أناسٍ يروون فصولاً من سيرة أسمهان، هي بمعظمها فصول متداولة ومكرّرة. البناء عادي، والقصص معروفة. الجانب الذاتي يحدّد بنية العمل ومساره. جانب ينفتح على راهن مصر زمن "ثورة 25 يناير" (2011) وما بعدها، إذْ تعكس الحسن واقعًا ينبثق من الثورة نفسها: تحطيم المقدّس. مغنيات شابات مولعات بأسمهان، يظهرن كأنهنّ واقفات أمام ذواتهنّ بعد "الثورة"، متسائلات عن معنى العلاقة بها. لاجئون عرب يناقشون "ليالي الأنس في فيينا" في العاصمة النمساوية، على ضوء "الربيع العربي"، فينتقدها بعضهم لأن لا "أنس" في فيينا لحالته المزرية، بينما يرى بعض آخر أن أسمهان تغني للجمال والطمأنينة.
الوثائقيّ الثالث بعنوان "عمّو نشأت" (2011) لأصيل منصور (الأربعاء، 28/ 8/ 2019). عملٌ يتفرّد بخروجه على مألوفٍ سينمائي فلسطيني في استعادة ذاكرة، أو بحقٍ في تاريخ فردي أو جماعي. "استشهاد" الفلسطيني الفتحاويّ نشأت، العمّ الأصغر لأصيل منصور، في معركة مع الإسرائيليين أثناء اجتياحهم لبنان عام 1982، محطة إنسانية وأخلاقية وثقافية في الوجدان الفرديّ. لكنّ "معلومة" يحصل عليها منصور صدفةً، تُبدِّل كلّ شيء: لا معارك بين الإسرائيليين وفلسطينيي "فتح" في البقاع اللبناني، في ذاك الاجتياح.
بحثٌ في ماضٍ يتجذّر في راهن المخرج وانفعالاته وتفكيره، يكشف له ـ شيئًا فشيئًا ـ خفايا "ممنوع فضحها". السؤال الطبيعي (أهو استشهاد أو اغتيال على أيدي رفاق السلاح؟) يتحوّل إلى رحلة في الماضي، جغرافيًا وتاريخيًا وعائليًا واجتماعيًا. الوثائقيّ شهادة عن مخبّأ يُفترض به أن يُكشَف، لتبيان حقائق ومعرفة وقائع هي جزء من الذاكرة الجماعية أيضًا.
أخيرًا، هناك الروائي الطويل "ميّ في الصيف" (2013) للفلسطينية الأميركية شيرين دعيبس (الأربعاء، 21/ 8/ 2019): بعد "هجرتها" إلى الولايات المتحدّة الأميركية، في "أمريكا" (2009)، تعود دعيبس إلى الأدرن مع "ميّ في الصيف". تجربة الهجرة قاسية، كتلك المعقودة على العيش في بلدٍ محتلّ، هو فلسطين. العودة إلى الأردن محاولة لفهم طبيعة الراهن وتحوّلات الواقع، عبر قصّة يُفترض بها أن تكون عادية وبسيطة، لولا أنّ البيئة الاجتماعية غير مرتاحة لمضمونها. فميّ برينّان (دعيبس نفسها) ـ الكاتبة الأردنية ذات الأصل الفلسطيني، المُقيمة في الولايات المتحدّة الأميركية ـ تعود إلى بلدها رفقة زياد (ألكسندر صدّيق)، الراغبة في الزواج منه بين أهلها. المشكلة؟ هي مسيحية، وهو مسلم.
لن يكون اختزال الحبكة الأصلية كافيًا، فالروائي الطويل الثاني لدعيبس يتوغّل في أحوال تلك البيئة وعاداتها وتفاصيل عيشها، ويحاول تفكيك أفرادها وعلاقاتهم وهواجسهم ويوميات عيشهم في بؤر خاصّة بهم، وفي أحوال اجتماع وثقافة. ورغم أنّ البساطة السينمائية، كتابة ومعالجة وتمثيلاً واشتغالات، واضحة، يحمل "ميّ في الصيف" اختبارًا جديدًا في صناعة سينمائية، يجتهد العاملون فيها لبلورة أفق بصريّ مختلف في مقارباته الفنية والدرامية والجمالية المتنوّعة.
المشترك بين الاحتفالين البيروتيين بأفلامٍ أردنية ـ يُحقِّقها مخرجون يجتهدون لبلورة أفق سينمائيّ أردني عربيّ، وفقًا لما يملكونه من أدوات ومخيّلة ورغبات وحساسيات وهواجس وتساؤلات ـ كامنٌ في حضور يحيى العبدالله، أحد المخرجين الأردنيين "المتورّطين"، جماليًا وفنيًا ودراميًا وإنسانيًا، في صناعة فيلمية أردنيّة، توازن بين نقاشٍ دراميّ لأحوالٍ وتفاصيل وتحدّيات، وأشكالٍ بصرية تُلغي كلّ حدّ فاصل بين الروائي والوثائقي في أكثر من فيلمٍ وثائقيّ له، بينما يغوص الروائيّ معه في أعماق ذاتٍ وروح وعلاقات، ترصد بمواربة أحوال الاجتماع وناسه.
ففي "شهر الأفلام الأردنيّة" في يناير/كانون الثاني 2019، اختير الروائي الطويل "الجمعة الأخيرة". وفي الاحتفاء البيروتيّ الثاني بتلك الأفلام، في أغسطس/ آب 2019، اختير وثائقيّ بعنوان "المجلس" (2014)، الذي يغوص في أحوال مدرسة فلسطينية في منطقة "السخنة" (الزرقا الأردنية)، متابعًا مسار تلامذتها الراغبين في إجراء انتخاب طالبيّ يكشف، في الوقت نفسه، جوانب من يوميات تلك المدرسة، وعلاقة التلامذة بالإدارة والمعلّمين، وحضور الـ"أونروا"، المُشرفة أصلاً على المدرسة. كما يطرح ـ بشكلٍ غير مباشر ـ أسئلة عن الواقع الفلسطيني ومصيره، وعن العلاقة القائمة بين الفلسطيني والأردنيّ.
وثائقيّ يحيى العبدالله يستند، في سرده الحكايات وتصويره الحالات، إلى نَفَسٍ روائيّ مبطّن، يؤدّي إلى تشكيل مرايا تحكي وتبوح وتكشف، بسلاسة محمّلة بكمّ هائل من الغليان والتطلّعات والوقائع. وثائقيّ يختلف عن "الجمعة الأخيرة"، الذي يكشف وجعًا وحبّا وهواجس، بعضها موغل في نبض المجتمع وعوالمه المختلفة. وإذْ يُعرض "المجلس" مساء الأربعاء، في 14 أغسطس/ آب 2019، فإنّ "شهر الأفلام الأردنية 2" يُفتتح، مساء الأربعاء في 7 أغسطس/ آب نفسه، بالوثائقيّ "حضور أسمهان الذي لا يُحتمل" (2014) للفلسطينية عزّة الحسن ("ضفة ثالثة" في "العربي الجديد"، 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015). فيه، تُقدّم الحسن شهادة إنسانية خاصّة بها إزاء أسمهان. الكاميرا معها رسالة موجّهة إلى الفنانة، والعدسة محاولة حثيثة لبلوغ شيء من صفاء ذاتي في مقاربة حكايات كثيرة ومُتشعّبة. البناء الفيلمي مرتكز على تبسيط تقني ـ فني متمثل بلقاءات مع أناسٍ يروون فصولاً من سيرة أسمهان، هي بمعظمها فصول متداولة ومكرّرة. البناء عادي، والقصص معروفة. الجانب الذاتي يحدّد بنية العمل ومساره. جانب ينفتح على راهن مصر زمن "ثورة 25 يناير" (2011) وما بعدها، إذْ تعكس الحسن واقعًا ينبثق من الثورة نفسها: تحطيم المقدّس. مغنيات شابات مولعات بأسمهان، يظهرن كأنهنّ واقفات أمام ذواتهنّ بعد "الثورة"، متسائلات عن معنى العلاقة بها. لاجئون عرب يناقشون "ليالي الأنس في فيينا" في العاصمة النمساوية، على ضوء "الربيع العربي"، فينتقدها بعضهم لأن لا "أنس" في فيينا لحالته المزرية، بينما يرى بعض آخر أن أسمهان تغني للجمال والطمأنينة.
الوثائقيّ الثالث بعنوان "عمّو نشأت" (2011) لأصيل منصور (الأربعاء، 28/ 8/ 2019). عملٌ يتفرّد بخروجه على مألوفٍ سينمائي فلسطيني في استعادة ذاكرة، أو بحقٍ في تاريخ فردي أو جماعي. "استشهاد" الفلسطيني الفتحاويّ نشأت، العمّ الأصغر لأصيل منصور، في معركة مع الإسرائيليين أثناء اجتياحهم لبنان عام 1982، محطة إنسانية وأخلاقية وثقافية في الوجدان الفرديّ. لكنّ "معلومة" يحصل عليها منصور صدفةً، تُبدِّل كلّ شيء: لا معارك بين الإسرائيليين وفلسطينيي "فتح" في البقاع اللبناني، في ذاك الاجتياح.
بحثٌ في ماضٍ يتجذّر في راهن المخرج وانفعالاته وتفكيره، يكشف له ـ شيئًا فشيئًا ـ خفايا "ممنوع فضحها". السؤال الطبيعي (أهو استشهاد أو اغتيال على أيدي رفاق السلاح؟) يتحوّل إلى رحلة في الماضي، جغرافيًا وتاريخيًا وعائليًا واجتماعيًا. الوثائقيّ شهادة عن مخبّأ يُفترض به أن يُكشَف، لتبيان حقائق ومعرفة وقائع هي جزء من الذاكرة الجماعية أيضًا.
أخيرًا، هناك الروائي الطويل "ميّ في الصيف" (2013) للفلسطينية الأميركية شيرين دعيبس (الأربعاء، 21/ 8/ 2019): بعد "هجرتها" إلى الولايات المتحدّة الأميركية، في "أمريكا" (2009)، تعود دعيبس إلى الأدرن مع "ميّ في الصيف". تجربة الهجرة قاسية، كتلك المعقودة على العيش في بلدٍ محتلّ، هو فلسطين. العودة إلى الأردن محاولة لفهم طبيعة الراهن وتحوّلات الواقع، عبر قصّة يُفترض بها أن تكون عادية وبسيطة، لولا أنّ البيئة الاجتماعية غير مرتاحة لمضمونها. فميّ برينّان (دعيبس نفسها) ـ الكاتبة الأردنية ذات الأصل الفلسطيني، المُقيمة في الولايات المتحدّة الأميركية ـ تعود إلى بلدها رفقة زياد (ألكسندر صدّيق)، الراغبة في الزواج منه بين أهلها. المشكلة؟ هي مسيحية، وهو مسلم.
لن يكون اختزال الحبكة الأصلية كافيًا، فالروائي الطويل الثاني لدعيبس يتوغّل في أحوال تلك البيئة وعاداتها وتفاصيل عيشها، ويحاول تفكيك أفرادها وعلاقاتهم وهواجسهم ويوميات عيشهم في بؤر خاصّة بهم، وفي أحوال اجتماع وثقافة. ورغم أنّ البساطة السينمائية، كتابة ومعالجة وتمثيلاً واشتغالات، واضحة، يحمل "ميّ في الصيف" اختبارًا جديدًا في صناعة سينمائية، يجتهد العاملون فيها لبلورة أفق بصريّ مختلف في مقارباته الفنية والدرامية والجمالية المتنوّعة.