تُغلق إدارة "متروبوليس" البيروتية صالتيها الاثنتين، لنزاعٍ ماليّ بين إدارة "أمبير" ("صاحبة" الصالتين)، ومالك المبنى (حيث الصالتين). هذا دافعٌ لكلامٍ، فيسبوكيّ أساساً، يغلب عليه الهزء والشتيمة. بدوره، يُعاني العالم أزمات، آخرها اغتيال الإيراني قاسم سليماني، ما يُحرّض المخرج الوثائقي الأميركي مايكل مور على إطلاق مواقف، لن تخلو من شعبوية يعتادها.
"متروبوليس": إغلاق صالة واستمرار مشروع
مُثير نبأ الإعلان غير الرسمي عن إغلاق صالتي سينما "متروبوليس" ("مركز صوفيل" في الأشرفية، بيروت)، قبل وقتٍ قليل. الوضع المالي متأزّم، وإدارة الجمعية مهمومة، منذ مطلع عام 2019، بكيفية حلّ المأزق المالي، للبقاء على قيد الحياة الثقافية والفنية اللبنانية. حدّة الأزمة اللبنانية، المفضوحة بفضل "انتفاضة 17 أكتوبر"، تدفع إدارة "أمبير" (صاحبة الصالتين)، إلى إصدار قرار الإغلاق، بالتزامن مع رغبة "جمعية متروبوليس" في إقفالٍ مؤقّت، تأييداً للانتفاضة. نزاع بين "أمبير" و"مصرف عودة"، مالك المبنى حيث الصالتين، سببُ الإغلاق.
التفاصيل متعلّقة بإيجارات وخسائر مالية. لا علاقة للإغلاق بـ"موت الثقافة"، في بلدٍ تزداد الهوّة فيه بين سلطات ومواطنين، وفي مجتمع يشهد تنصّل السلطات الرسمية من كلّ فعلٍ ثقافي وفني، ومن كلّ مسؤولية وطنية أصلاً. إغلاق "متروبوليس" منبثقٌ من إغلاق مكانٍ، لكن المشروع مستمرّ، والبحث عن مكانٍ آخر جارٍ.
تنتهي الحكاية هنا. لكن الإعلان غير الرسمي عن الإغلاق دافعٌ إلى استعانة البعض بالسخرية والشتم ضد "متروبوليس"، وضد جمعيات ومؤسّسات ثقافية وفنية، خصوصاً بعد بدء الانتفاضة. ناشطون يهزأون فيسبوكياً، وقليلون بينهم يذكرون وقائع، بعضها يتناول ضمنياً شلليّة مَعلومةً في وسطٍ يشهد سطوة الشلليّة في جوانب حياتية عديدة. لكنّ التغاضي المطلق عن إيجابيات "متروبوليس"، وغيرها من جمعيات ومؤسّسات (لناشطين ساخرين علاقات عمل سابقة مع بعضها)، مُثيرٌ لتساؤل عن عبثية المشهد اللبناني، وانشقاقاته الفظيعة. رفض حقائق لن يُلغي آليات اشتغالٍ وعلاقاتٍ، وبعض الآليات مرتبطٌ بمفهوم الشلليّة. جمعيات ومؤسّسات ثقافية وفنية لبنانية عديدة مشهورة بشلليّتها، المانعة كلّ تواصلٍ وانفتاح خارجها (الشلليّة). لكنْ، يُفترض بهذا ألّا يُلغي مساراً وأعمالاً ونشاطاتٍ، وألا يُلغي نقاشاً نقدياً يتناول هذه الآليات أيضاً.
التمويل سببٌ إضافي لهجمةٍ فيسبوكية على جمعيات ومؤسّسات ثقافية وفنية، منها "متروبوليس". التمويل حاجة ملحّة، وإلا تنعدم كلّ إمكانية للعمل. التمويل عامةً يكشف نزعةً إلى تخوين المستفيد منه لتحقيق نشاطات ثقافية وفنية، بينما يطرح في لبنان الانتفاضة (تحديداً) سؤال العلاقة بحيتان المال، أي المصارف. بعض المصارف يموّل مشاريع وجمعيات ومؤسّسات، وفي تمويله أو دعمه نوعٌ من غطرسةٍ أو تشاوف ضمنيّين، لكن الأساس فيهما (التمويل والدعم) متعلّق بعلاقات شخصية تربط مصارف بمثقفين وفنانين وناشطين من دون غيرهم، وبعض الجمعيات والمؤسّسات يستفيد أكثر من غيره بسبب العلاقات الشخصية. هذا معروفٌ. غير أنّ اتّخاذ المعروف هذا حجّة للسخرية من "متروبوليس" وأشباهها، في هذه اللحظة بالذات، يفقد شيئاً من مصداقية النقاش النقدي، إنْ يكن الساخرون يريدون نقاشاً نقدياً أصلاً.
نقاشٌ آخر يتناول الجمعيات والمؤسّسات نفسها: مشاريعها وآليات اشتغالها وكيفية تعاملها مع مثقفين وفنانين. هذا حيوي. هذا ضروري. هذا حاصلٌ سابقاً، وإنْ في فترات قليلة، وبشكلٍ شبه عابر، والشكل شبه العابر مصيبة، إذْ يُفترض بنقاش مسائل كهذه ألا يكون عابراً.
لـ"متروبوليس" هنات، لكنّ الإيجابيّ في اشتغالها أكبر من أنْ يُختَصَر بسخرية وشتمٍ. هناك انفصال بين جمعيات ومؤسّسات من جهة، ومثقفين وفنانين من جهة أخرى. هذا صحيح. هذا نابع من مفهوم الشلليّة، المنسحب على مسائل كثيرة أخرى في البلد. لكنْ، لـ"متروبوليس" مكانة سينمائية لن يسهل التغاضي عنها، ولن يكون صحيحاً التعالي عليها.
مايكل مور: خارج السينما، داخل الشعبوية
الاغتيال الأميركي للجنرال الإيرانيّ قاسم سليماني، قائد "فيلق القدس" في "الحرس الثوري الإيراني" (3 يناير/ كانون الثاني 2020)، مادة لاستغلالٍ إعلاميّ يشارك فيه المخرج الأميركي مايكل مور. بحجّة يساريته الشعبوية، وبسبب تاريخه الحافل بالانتقادات العنيفة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، يستعين مور بمفردات يعتادها في شنّ حملةٍ جديدة ضد إدارة بلده، التي يُمسك بها رئيس يكاد يكون أكثر الرؤساء الأميركيين انتقاداً وشتماً من أبناء البلد، أولاً وأساساً.
شعبوية مايكل مور معروفة. يُتقن إنجاز أفلامٍ تفضح سياسات أميركية داخلية، وتُعرّي سطوة الرأسمال وقوى الضغط الفاعلة في الاجتماع والاقتصاد. مُصيبٌ بتوغّله في أحوال بلده وناس بلده، لتمكّنه من مفرداته وأدواته السينمائية الوثائقية عامةً. لكنّ تصريحات له هزيلة، تبدو أشبه بمهزلةٍ، لما يعتريها من تسطيح وتعالٍ، ومن خطابية شعبوية. يُطلق أقوالاً يُردّدها آخرون بسذاجة، كأن يرفع صوته عالياً عند قوله: "العار عليك يا بوش"، فيُصبح كلامه هذا شعاراً يتداوله أعداء أميركا. يهاجم دونالد ترامب بعد اغتيال سليماني، ويطلب من مسؤولي إيران عدم الردّ على الاغتيال، لظنّه أنّ ملايين الأميركيين سيُسقطون رئيسهم المكروه، وإسقاط ترامب واردٌ في أيّ لحظة لكنْ لأسبابٍ أميركية. يتوجّه إلى أبناء بلده، سائلاً إياهم عما إذا كانوا يعرفون سليماني، فيُجيبه البعض بـ"نعم" كبيرة، لأنّ هذا البعض يتابع ويقرأ ويناقش، بدلاً من "البكائيات" المنشغل بها مايكل مور منذ الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016، كما يقول هذا البعض، ساخراً منه.
لمور أفلامٌ تُعتبر مراجع وثائقية لأحوال الاقتصاد والاجتماع الأميركيين. منذ "روجر وأنا" (1989)، يغوص في مآزق بلده. يزداد شهرة دولية بإنجازه "بولينغ من أجل كولومباين" (جائزة العيد الـ55 لمهرجان "كانّ" السينمائي، 2002)، و"فهرنهايت 11/ 9" ("السعفة الذهبية" لـ"كانّ" 2004). هذه علامات. لكن "سايكو" (2007)، يفتتح مساراً سلبياً، بانتقائه ما يُناسِب شعبويّة المخرج، بدلاً من التدقيق في حقائق ووقائع يختار بعضها ويرتكز عليه، فهو مهمومٌ بشتم إدارات بلده لا بحقوق ناس بلده. انتقائيّته مسحوبة على خطابه السياسي، فهو كاتبٌ أيضاً له مؤلّفات، بعضها القليل مهمّ وواضح، وبعضها الآخر منتمٍ إلى خطابية مباشرة ومُملّة، لشدّة شعبويتها وانتقائيّتها.
هو مُكترثٌ بما يتلاءم وطروحاته. تفاعله مع قضايا دولية منطلقٌ، كما هو واضح، من مقارعته الإدارة الأميركية في سياساتها الداخلية والخارجية، وليس بسبب اهتمامه بالقضايا الدولية بحدّ ذاتها. ربما يكون هذا مقبولاً لدى البعض، لكن غالبيّة خياراته منصبّة على الشتم والتقريع، اللذين يُطلقهما ضد إدارات بلده، فقط لا غير.