قبيل رحيله بأشهر قليلة، كان مخرج الواقعية الكبير، محمد خان، ضيفاً مرحاً على عدة ندوات، متحدثاً عن كتابه "مخرج على الطريق". وهو كتاب أتاح الاطلاع بصورة أوسع لرؤية خان الفنية وتجربته الثرية التي بدأت مع سبعينيات القرن الماضي، وأسفرت عن 25 فيلماً. بل إن الكتاب الذي يبلغ 600 صفحة يوفر أيضاً مادة تاريخية عن أحوال صناعة السينما المصرية عبر فصول مشوّقة. ابتسامته على الغلاف لا تختلف كثيراً عن الروح التي يلمحها القارئ وهو يقرأ لمبدع سهل العبارة واضح الفكرة، استطاع بأسلوبه الهادئ أن يصل إلى القارئ غير المتخصص ويشاركه هموم السينمائيين.
وأخيراً... مات مصرياً
وبالرغم من أنّه قاهري المولد والنشأة والهوى، فإن الحكومة لم تعترف به مصرياً، فلم يحصل على جنسيتها إلا في عام 2014، بحجة أنه ولد (في 26 أكتوبر/ تشرين الأول 1942) لأب باكستاني وأم إيطالية مصرية المولد، ولذا ظل يتنقل طوال حياته حول العالم ثم يعود إلى مصر بجواز سفره البريطاني. ويمكن تقديم حسبة أخرى لإشكالية الجنسية الصورية هذه، بأن محمد خان البريطاني أخرج 24 فيلماً مصرياً منذ فيلمه الأول القصير (البطيخة) عام 1972، ثم فيلمه الروائي الأول (ضربة شمس) 1978، وصولاً إلى فيلمه (فتاة المصنع) 2013، بينما أخرج محمد خان المصري فيلماً واحداً فقط، هو (في زحمة الصيف) عام 2015. لكن عدم مصريته الرسمية لم يمنعه وهو في أواخر العقد السادس من أن ينضم إلى الشباب في التحرير أثناء ثورة 25 يناير يحمل لافتاتهم ويهتف بهتافاتهم، فالأنظمة السياسية وحدها هي التي لم تعترف به، بينما اعترف به الشارع الذي وُلد فيه وعاش، وقدّم أعماله من أجله.
من هموم الإخراج
رأى خان أن هناك حقيقة مؤلمة تتمثل بأن مجال النشر السينمائي العربي المتخصص يعاني دوماً من الجفاف من ناحيتي الكيف والكم. لذا، بدأت مشاركاته الصحفية، وقد جمع مادة كتابه من تلك المقالات التي نشرها في عدة صحف عربية خلال ربع قرن (من 1990 إلى 2015). يمكن اعتبار الكتاب مرجعاً مهماً في التأريخ لهموم الإخراج السينمائي الجاد، حيث يبدأ في التعريف ببعض أسباب معاناة السينما المصرية، ويضع في مقدمتها أزمة الميزانية، التي يتمثل أحد جوانبها بأجر نجوم الصف الأول، الذين يصل أجر الواحد منهم إلى نصف ميزانية الفيلم، فيقول: "معنى هذا أن النصف الباقي لا بد أن يغطي أجور المخرج، وكاتب السيناريو، ومؤلف الرواية، ومدير التصوير، والملحن، ومنسق المناظر، والمونتير، وصف ممثلي الأداور الثانوية، والكومبارس، إلى جانب أطقم الفنيين للفروع الفنية الأخرى، إضافة إلى تكاليف الخامات والتحميض والطبع ومواد الدعاية... إلخ". كذلك يؤكد أن هذا الواقع المرير يُعَدّ من الأسباب الجوهرية في انهيار الطاقة الإنتاجية لصناعة السينما بمصر في فترة التسعينيات وما بعدها.
طاقة مهدرة
هذا عن تمويل العمل السينمائي، أما عن جهد المُخرج المهدر بعيداً عن جوهر عمله، فإنه يتحدث عن نفسه وعن أبناء مهنته بقوله: "في أغلب الحالات يفقد المخرج 50% من طاقته الإبداعية قبل أن يبدأ تصوير أول لقطة للفيلم، تليها 25% أخرى تستنزف أثناء التصوير ومراحله اللاحقة، تلك الطاقة الضائعة تستنفد في أي شيء وكل شيء ما عدا الإبداع، ومعظمها يستهلك تحت بند: الإقناع. إقناع صاحب القصة أو الرواية بأنه أنسب الموجودين لتقديمها على الشاشة وحفاظاً على فكرها. إقناع كاتب السيناريو بأهمية التفاصيل الصغيرة. إقناع الرقيب بدلالة جملة الحوار أو المشهد الذي يطالب بحذفه. إقناع المنتج ومستشاريه بجماهيرية الموضوع والقابلية التجارية له. إقناع الممثلين من أكبرهم لأصغرهم بصلاحية كل منهم للدور المعروض عليهم، وبأن شعبية النجم أو النجمة بينهم ستزيد بعد الفيلم. إقناع مدير التصوير بالتخلي عن الجماليات في سبيل الحفاظ على روح الدراما ومنطقيتها. إقناع المونتير بالإيقاع المناسب للفيلم. إقناع بقية العاملين بتعاطفهم مع كل مشكلة كبيرة وصغيرة تواجههم أثناء العمل...". إلى آخر قائمة الإقناعات التي ساقها المخرج المعذب في سبيل تنفيذ عمله! مشيراً إلى أنه لا يخفف من تلك الأعباء الثانوية التي تستهلك المخرج إلا توافر المنتج الفني الحقيقي، وهو ما اعتبره خان عملة نادرة، بالرغم من أنه ضرب بعض الأمثلة على ذلك، منها فيلمه الأول "ضربة شمس" الذي قام ببطولته وإنتاجه نور الشريف.
ما بعد الإخراج
هناك مشكلات أخرى في مرحلة ما بعد الإخراج، من بينها ما أشار إليه من العبث بالفيلم دون استئذان أصحابه أو مراجعتهم، وقد ضرب لذلك مثالاً بفيلمه "زوجة رجل مهم" الذي كان منافساً قوياً في المهرجانات العالمية، وكان يحتفى به خارجياً، خاصة تلك البلاد التي تعاني من الشخصيات الفاشستية، التي حينما يحين أوان سقوطها تدمّر أقرب الناس إليها قبل أن تدمّر نفسها. كان خان متألماً من العبث الذي يجري في بعض المشاهد والاعتداء على الجهد الذي بذل فيه. يقول: "فوجئت في مرة على شاشة التلفزيون أكثر من مشهد للفيلم، وقد أعيد توليفه وحُذف الصوت منه لتُستبدَل به أغنية، وشاهدت كذلك عدة أغانٍ أخرى تستغل مشاهد من أفلام أخرى. هذا يحصل من دون استئذان صاحب الفيلم، سواء منتجه أو المخرج الذي خلق هذه المشاهد على الشاشة".
روح سردية
لا يخفى أيضاً على قارئ الكتاب تلك الروح السردية التي تتسرب إلى العديد من فصول كتاب خان لتخرج أشبه بقصة قصيرة متكاملة العناصر، مثل ما قام بكتابته حول كواليس فيلم "يوسف وزينب"، حيث تبدأ الحكاية بلقاء محمد خان بصديقه المالديفي القديم مأمون عبد القيوم، الذي تعرف إليه أثناء دراسة الأخير في الأزهر، لكن الزمن تغير وأصبح محمد مخرجاً سينمائياً ومأمون رئيساً لجمهورية المالديف، يدعوه مأمون إلى إنتاج أول فيلم مالديفي في التاريخ، فيوافق خان. يحكي الفيلم عن قصة مدرس مصري شاب (فاروق الفيشاوي) يسافر إلى تلك الجزر النائية، فيصدم بأنها دولة نامية اقتصادياً، لا يُرجى من وراء سفره إليها ثروة مادية يؤمن بها مستقبله في مصر، وحين يقرر العودة تجذبه علاقات إنسانية وحاجة الجزيرة إليه، كذلك تربطه علاقة عاطفية بالفتاة المالديفية زينب. يحكي خان عن أحد مشاهد الفيلم حين تعود زينب إلى مقاعد الدرس الذي حرمها أهلها إياه، وحين يحاول يوسف أن يعلّم طلاب فصله أغنية محمد فوزي للأطفال: "ذهب الليل طلع البدر والعصفور صوصو"، تزداد بهجة يوسف وهو يرى الأطفال وقد تعالت أصواتهم بالأغنية وانسجموا معها. يقول محمد خان: "بينما حان موعد الفراق بعد نحو ثلاثة أسابيع تصويراً يومياً على شاطئ الجزيرة، ونغادرها كل مساء إلى الجزيرة السياحية القريبة التي كنا نسكنها، اصطف أهالي الجزيرة على ساحلها الجميل ليودعونا وهم ينشدون معاً: ذهب الليل طلع الفجر والعصفور صوصو. لتسيل دموعنا جميعاً. وكان من ضمن تعليماتي عقب عرض الفيلم الأول في العاصمة أن يعرض كفيديو على أهالي تلك الجزيرة".
في أيامه الأخيرة، وقبيل رحيله (في 26 يوليو/ تموز 2016) جمع محمد خان كتاباته، فكانت بمثابة ذكريات يشارك من خلالها القارئ العربي رؤيته للواقع الفني، ويشاركه أيضاً مشاعره التي بدأت تستجد عليه بعد أن توغل في العقد الثامن من عمره، فكتب: "كلما اقترب قطار العمر بالمحطة الأخيرة، ظهرت معالم التوجسات وإعادة الحسابات، وتحوّلت الرحلة إلى رحلة ذكريات مارّة بأحداث ولحظات وشخصيات وتجارب وتساؤلات. وفي حالتي بالطبع، أتطرق إلى أفلام ربما في حاجة إلى إعادة تقييمها، على الرغم من أنها أصبحت بمثابة هويتي الشخصية".