بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر)، عقوداً من حياته، مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفنّ.
تنشر "العربي الجديد" كل يوم اثنين مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءاته مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس وغيرها من العواصم.
تنشر "العربي الجديد" كل يوم اثنين مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءاته مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس وغيرها من العواصم.
قبل خمسين عاماً، في أواخر شهر أغسطس/ آب سنة 1969 توفي المخرج السينمائي المصري العتيد أحمد بدرخان، قبل أن يشاهد عرض آخر أفلامه "نادية"، وهو من بطولة سعاد حسني وأحمد مظهر ونور الشريف، عن قصة ليوسف السباعي. كانت نسخ الفيلم بعد انتهاء المونتاج قيد الطبع في المعمل.
عرفت أحمد بدرخان، أستاذ مادة الإخراج في المعهد العالي للسينما في القاهرة، ونحن طلاب السنة الأولى. علّمنا ألف باء الإخراج: أنواع اللقطات، وحركات الكاميرا، وزوايا التصوير، وعلاقة السيناريو بالإخراج وعلاقة المونتاج. وهو عموماً كان من أنصار الزواج بين السينما والأدب. كنا نحترمه ونحبه. كان من الرواد في تاريخ السينما المصرية، وكان ودود الطبع، رائقاً، راقياً، يتكلم بهدوء وفي حديثه لثغة خفيفة محببة في حرف الراء. وفي آخر السنة استقال العميد محمد كريم وخلفه أحمد بدرخان، فاستقبلنا جميعا الخبر بالترحاب. ظل بدرخان في منصب العميد سنة كاملة ثم قدّم استقالته. أدار شؤون المعهد بهدوء وثقة، ومرّة وحيدة شاهدته فيها غاضباً منفعلاً، فأدركت صحة المثل القائل "اتّقِ غضب الحليم".
ولد أحمد بدرخان في حيّ القلعة في القاهرة في 18 سبتمبر/ أيلول 1909، وتلقّى علومه الابتدائية والثانوية في مدرسة الفرير. وبناء على رغبة أبيه التحق بكلية الحقوق، لكن باله كان منشغلاً بالسينما والتمثيل. كان يواظب على حضور الأفلام، خصوصاً أفلام شارلي شابلن، وعروض فرقة رمسيس المسرحية، يرافقه زميله في المدرسة جمال مدكور، الذي سيصبح مخرجاً هو الآخر. وفي سنة 1930 التحق أحمد بدرخان بمعهد التمثيل الذي كان زكي طليمات قد أنشأه لكي يدرس فن التمثيل. لكن المعهد ما لبث أن أغلق أبوابه، فتوقف أحمد بدرخان مضطراً عن الدراسة.
اقــرأ أيضاً
لكن حبّه للسينما جعله يراسل معهد السينما في باريس وكان يتلقى منه المحاضرات، يستوعبها وينشر خلاصتها في مقالات في مجلة "الصباح" الفنيّة، التي كلفته في ما بعد تحرير قسم السينما الأسبوعي فيها. هذه المقالات لفتت نظر طلعت باشا حرب، رئيس مجلس إدارة بنك مصر والشركات التابعة له، ومنها "شركة مصر للتمثيل والسينما"، فأوفد بعثات لدراسة السينما في أوروبا سنة 1931، البعض في ألمانيا والبعض في فرنسا. وكان أحمد بدرخان في الوفد المتوجّه إلى باريس بحكم معرفته باللغة الفرنسية منذ الدراسة في مدرسة الفرير.
في باريس التحق بالمدرسة الوطنية العليا للسينما، وهي على اسم السينمائي الفرنسي الرائد لوي لوميير. وفي تلك الفترة التقى النجم الكوميدي نجيب الريحاني وكان يصوّر في العاصمة الفرنسية فيلم "ياقوت أفندي" فعرّفه على المخرج ويلي روزييه الذي جعل بدرخان مساعداً له، فأتيحت له فرصة التدريب العملي إلى جانب الدراسة النظرية.
أخبرنا أحمد بدرخان كيف أتقن اللغة الفرنسية التي كان يعرفها قراءة وكتابة وحديثاً. لكن سماع الحوارات في الأفلام والمسرحيات يتطلب دربة خاصة تمكّن المشاهد الأجنبي من استيعاب الحوار مباشرة. قال لنا: "عند قراءة كتاب يمكنك أن تتوقف أمام عبارات معينة وتتأمل مفكّراً في معناها، أما خلال مشاهدة الفيلم أو المسرحية فلن يوقفوا العرض لكي تتأمل أنت". وأضاف: "كنت أقرأ الأنباء يومياً في الصحيفة على مهل، ثم أستمع إلى نشرة الأخبار في الراديو. ولكوني فاهماً طبيعة الخبر كنت أستوعبه بسرعة. وهكذا اعتدت على اللغة المنطوقة بعد اللغة المقروءة والمكتوبة".
بعد حصوله على دبلوم الإخراج، عاد أحمد بدرخان إلى القاهرة سنة 1934. كان طلعت حرب يفكّر في إنشاء استديو مصر، طلب منه دراسة مفصلة عن المشروع. أعدّها بدرخان، وبناء عليها تم إنشاء أول استديو لتصوير الأفلام في مصر والعالم العربي، وفيه 3 بلاتوهات للتصوير، ومعمل للتحميض والطبع، وقاعات لتسجيل الصوت والموسيقى ولعمل المونتاج. وكانت هذه أول خدمة قدّمها أحمد بدرخان للسينما. وفي المقابل عيّنه استديو مصر بوظيفة مخرج براتب قدره عشرون جنيها في الشهر، وكلّفه بإخراج باكورة الإنتاج.
اقــرأ أيضاً
كان "وداد" أول فيلم ينتجه استديو مصر، الذي تعاقد مع كوكب الشرق أم كلثوم لتكون البطلة، وكتب الشاعر أحمد رامي القصة. وكُلّف أحمد بدرخان بكتابة السيناريو والإخراج. كتب السيناريو فعلاً واختار فريق العمل، وفيه جمال مدكور مساعدًا للمخرج، ونيازي مصطفى للمونتاج. (كلاهما عمل في المونتاج قبل التحول إلى الإخراج). لكن المخرج أحمد سالم مدير استديو مصر آنذاك، شعر بالغيرة وأبعد أحمد بدرخان عن إخراج الفيلم بحجة أنه ليس من المستحب أن يكون باكورةَ إنتاج استديو مصر فيلمٌ من بطولة النجمة أم كلثوم ومن إخراج شاب ليست لديه أعمال سابقة! اعتبر بدرخان، وعن حق، أن القرار مسٌ بكرامته، فاستقال فوراً من الاستديو وتولّى فريتز كرامب، الألماني المقيم في مصر والموظف في استديو مصر بصفة خبير، إخراج الفيلم.
تعاطفت أم كلثوم مع المخرج الشاب وأصرّت على أن يكون مخرج ثاني أفلامها. وهذا ما حدث بالفعل. بل إن أحمد بدرخان أخرج أربعة من الأفلام الستة التي مثلتها أم كلثوم: "نشيد الأمل" أو "منّيت شبابي"، ثم "دنانير"، و"عايدة"، و"فاطمة". أما الفيلم السادس "سلامة" فأخرجه منتجه توجو مزراحي. ومن سنة 1937 إلى حين وفاته أخرج بدرخان نحو أربعين فيلماً.
مخرج أفلام أم كلثوم هو الذي قدّم أسمهان وفريد الأطرش في السينما لأول مرة في فيلم "انتصار الشباب" سنة 1941. بعده قامت أسمهان ببطولة فيلم "غرام وانتقام"، من إخراج يوسف وهبي، وتوفيت قبل تصوير اللقطات الأخيرة. أما فريد الأطرش فتعاون كثيرا مع المخرج أحمد بدرخان، فكان بطل تسعة أفلام من إخراجه، منها "لحن حبي" و"آخر كدبة" و"إزاي أنساك" و"عهد الهوى".
ويمكن اعتبار أحمد بدرخان من أكثر السينمائيين المصريين الذين أخرجوا أفلاماً أبطالها نجوم الغناء. غير أم كلثوم وأسمهان وفريد الأطرش، أخرج أفلاماً من بطولة صباح ونور الهدى ومحمد فوزي ومحمد عبد المطلب وعبد العزيز محمود وعبد الغني السيد ومحمد الكحلاوي ونجاة الصغيرة. وهو أصلاً من هواة الموسيقى والطرب، بل واشترك في كتابة أغاني فيلم "الأبرياء". وحين صوّرت أم كلثوم قصيدة أحمد شوقي "إلى عرفات الله" التي لحنها رياض السنباطي لحساب التلفزيون المصري، طلبت أن يكون أحمد بدرخان هو المخرج.
ثمة لون آخر أحبه أحمد بدرخان، وهو الأفلام التي تتناول سير الشخصيات. أخرج سنة 1952 فيلم "مصطفى كامل"، عن السياسي المصري مؤسس "الحزب الوطني". والفيلم يعرض صور الكفاح من أجل الاستقلال ويندد بالاحتلال البريطاني. لم تتحمس شركات الإنتاج السينمائي لتبنّي مشروع الفيلم، لأنها لم تجد فيه عناصر تجارية مضمونة، فما كان من بدرخان إلا أن أنتجه بنفسه. وقد منعت الرقابة آنذاك عرضه، فمني بدرخان بخسارة مالية. وظل الفيلم حبيس العلب إلى أن تمّ الإفراج عنه بعد إطاحة الملك فاروق وتغيير النظام.
اقــرأ أيضاً
كذلك أخرج أحمد بدرخان فيلم "سيد درويش"، عن الملحن العبقري، وأسند دور البطولة فيه إلى المخرج المسرحي كرم مطاوع وأمامه هند رستم، وفيلم "الله معنا" عن القضية الفلسطينية أنجزه سنة 1955، وفيه اجتمعت فاتن حمامة وماجدة معاً في فيلم واحد. وأعتقد أنها المرة الأولى والأخيرة.
لم يكن غريباً أن أحمد بدرخان كان معجباً بالسينما الفرنسية وبأفلام الثلاثينيات، هو الذي درس الإخراج في باريس، بل وبالسينما الفرنسية عموماً في المراحل اللاحقة. وهو الذي جعلنا نحب أفلام مارسيل كارنيه ("ميناء الضباب"، و"زوّار المساء"، و"أبناء الفردوس"، و"أبواب الليل")، ورينه كلير ("جميلات الليل"، و"بوابة ليلاً")، ورينه كليمان ("الألعاب الممنوعة")، وجاك تاتي ("عطلات المسيو هولو")، وصولاً إلى أفلام "الموجة الجديدة" لجان لوك غودار ("على آخر نفس")، وفرنسوا تروفو ("جول وجيم")، وآنياس فاردا ("كليو من الخامسة إلى السابعة"). وقد عرض هذه الأفلام جميعاً في المعهد العالي للسينما. كان معجباً بالتعاون المثمر بين المخرج القدير مارسيل كارنيه، والشاعر جاك بريفير ككاتب سيناريو الأفلام التي شاهدناها، وبالشحنة الإنسانية الحارة في فيلم رينه كليمان، وبالأداء الرائع للطفلة بريجيت فوسيه التي ستصبح الممثلة المعروفة لاحقاً. وكان يرى في جاك تاتي امتداداً عصرياً في سكّة شارلي شابلن. أما فيلم آنياس فاردا فهو فريد في تجربته، وفيه يحاكي زمن الفيلم الزمن الواقعي ونحن نعيش مع كليو ساعتي انتظار نتيجة فحص السرطان بكل ما فيها من توتر وصدق إنساني.
كان أحمد بدرخان وراء دعوة المخرج رينه كلير والمؤرخ جورج سادول لزيارة معهد السينما. ومعه التقيت بالناقد الفرنسي الشهير مارسيل مارتان في المركز الثقافي الفرنسي، وكنا ندرس كتابه "اللغة السينمائية". وكان أيضا من داعمي مشروع ترجمة الكتب المختصة بفنون السينما إلى اللغة العربية، بل وترجم بعضها، ومنها كتاب "ما هي السينما" للناقد الفرنسي الشهير أندريه بازان، وقد اشترك د. ريمون فرنسيس معه في الترجمة.
وعندما كان أحمد بدرخان عميداً لمعهد السينما كان صديق عمره جمال مدكور وكيل المعهد (بمثابة نائب العميد). وجمال مدكور زميله في مدرسة الفرير الثانوية، ورفيقه في مشاهدة الأفلام والمسرحيات، وكان في عداد الوفد الذي حصل على منحة للدراسة في باريس. وقد عمل مساعداً للمخرج بدرخان وتولى مونتاج أفلامه الأولى لفترة حتى بعد أن أصبح هو الآخر مخرجاً سنة 1942 وأنجز فيلم "أخيرا تزوجت". ولم يمارس الإخراج لفترة طويلة، إذ كان فيلم "آثار في الرمال" آخر أفلامه سنة 1954، تفرّغ بعدها لوظائف إدارية فنيّة في المؤسسات التي تُعنى بالسينما.
وفي السنة الدراسية (1963/ 1964) التي كان فيها أحمد بدرخان عميداً لمعهد السينما، التحق ابنه علي بالمعهد ليدرس الإخراج. والواقع أنه كان يرغب أساساً في أن يصبح ضابطاً في البحرية التجارية، لكن الفكرة لم ترق لبدرخان الأب نظراً لأنها تتطلب الكثير من الأسفار، فنصح لابنه دراسة السينما وزيّن له الأمر. ولم يتلقَّ علي الطالب معاملة خاصة أيام عمادة أبيه. وسلك الطريق الطبيعية ليصبح مخرجاً ناجحاً: الدراسة الأكاديمية وقد تخرّج سنة 1967، ثم البعثة التدريبية إلى "مدينة السينما" في روما Cinecittà، ثم التدرج كمساعد لمخرجين كبار: يوسف شاهين (فيلمي "الاختيار" و"العصفور")، وفطين عبد الوهاب ("أرض النفاق")، وأحمد ضياء الدين ("أشياء لا تشترى")، ومع أبيه أحمد بدرخان في ثلاثة أفلام، آخرها "نادية". ومن بعد أصبح مخرجاً مرموقاً أخرج أفلاماً مميزة، من بينها "الكرنك"، و"شفيقة ومتولي"، و"أهل القمة".
وكان أحمد بدرخان قد تزوج ثلاث مرات. من الممثلة روحية خالد، ثم من المطربة أسمهان، ثم من الممثلة سلوى علام. أما زواجه من أسمهان فكان الأقصر عمراً، إذ دام أربعين يوماً فقط لا غير. كانت قصة حب سريعة قد نشأت بينهما أثناء تصوير فيلم "انتصار الشباب"، لكن اختلاف الأمزجة لم يكتب لهذه الزيجة العمر الطويل.
عندما توفي أحمد بدرخان كان ينقصه اثنان وعشرون يوماً ليبلغ الستين من عمره. وبرغم العمر القصير نسبياً، أنجز بدرخان الكثير.
عرفت أحمد بدرخان، أستاذ مادة الإخراج في المعهد العالي للسينما في القاهرة، ونحن طلاب السنة الأولى. علّمنا ألف باء الإخراج: أنواع اللقطات، وحركات الكاميرا، وزوايا التصوير، وعلاقة السيناريو بالإخراج وعلاقة المونتاج. وهو عموماً كان من أنصار الزواج بين السينما والأدب. كنا نحترمه ونحبه. كان من الرواد في تاريخ السينما المصرية، وكان ودود الطبع، رائقاً، راقياً، يتكلم بهدوء وفي حديثه لثغة خفيفة محببة في حرف الراء. وفي آخر السنة استقال العميد محمد كريم وخلفه أحمد بدرخان، فاستقبلنا جميعا الخبر بالترحاب. ظل بدرخان في منصب العميد سنة كاملة ثم قدّم استقالته. أدار شؤون المعهد بهدوء وثقة، ومرّة وحيدة شاهدته فيها غاضباً منفعلاً، فأدركت صحة المثل القائل "اتّقِ غضب الحليم".
ولد أحمد بدرخان في حيّ القلعة في القاهرة في 18 سبتمبر/ أيلول 1909، وتلقّى علومه الابتدائية والثانوية في مدرسة الفرير. وبناء على رغبة أبيه التحق بكلية الحقوق، لكن باله كان منشغلاً بالسينما والتمثيل. كان يواظب على حضور الأفلام، خصوصاً أفلام شارلي شابلن، وعروض فرقة رمسيس المسرحية، يرافقه زميله في المدرسة جمال مدكور، الذي سيصبح مخرجاً هو الآخر. وفي سنة 1930 التحق أحمد بدرخان بمعهد التمثيل الذي كان زكي طليمات قد أنشأه لكي يدرس فن التمثيل. لكن المعهد ما لبث أن أغلق أبوابه، فتوقف أحمد بدرخان مضطراً عن الدراسة.
لكن حبّه للسينما جعله يراسل معهد السينما في باريس وكان يتلقى منه المحاضرات، يستوعبها وينشر خلاصتها في مقالات في مجلة "الصباح" الفنيّة، التي كلفته في ما بعد تحرير قسم السينما الأسبوعي فيها. هذه المقالات لفتت نظر طلعت باشا حرب، رئيس مجلس إدارة بنك مصر والشركات التابعة له، ومنها "شركة مصر للتمثيل والسينما"، فأوفد بعثات لدراسة السينما في أوروبا سنة 1931، البعض في ألمانيا والبعض في فرنسا. وكان أحمد بدرخان في الوفد المتوجّه إلى باريس بحكم معرفته باللغة الفرنسية منذ الدراسة في مدرسة الفرير.
في باريس التحق بالمدرسة الوطنية العليا للسينما، وهي على اسم السينمائي الفرنسي الرائد لوي لوميير. وفي تلك الفترة التقى النجم الكوميدي نجيب الريحاني وكان يصوّر في العاصمة الفرنسية فيلم "ياقوت أفندي" فعرّفه على المخرج ويلي روزييه الذي جعل بدرخان مساعداً له، فأتيحت له فرصة التدريب العملي إلى جانب الدراسة النظرية.
أخبرنا أحمد بدرخان كيف أتقن اللغة الفرنسية التي كان يعرفها قراءة وكتابة وحديثاً. لكن سماع الحوارات في الأفلام والمسرحيات يتطلب دربة خاصة تمكّن المشاهد الأجنبي من استيعاب الحوار مباشرة. قال لنا: "عند قراءة كتاب يمكنك أن تتوقف أمام عبارات معينة وتتأمل مفكّراً في معناها، أما خلال مشاهدة الفيلم أو المسرحية فلن يوقفوا العرض لكي تتأمل أنت". وأضاف: "كنت أقرأ الأنباء يومياً في الصحيفة على مهل، ثم أستمع إلى نشرة الأخبار في الراديو. ولكوني فاهماً طبيعة الخبر كنت أستوعبه بسرعة. وهكذا اعتدت على اللغة المنطوقة بعد اللغة المقروءة والمكتوبة".
بعد حصوله على دبلوم الإخراج، عاد أحمد بدرخان إلى القاهرة سنة 1934. كان طلعت حرب يفكّر في إنشاء استديو مصر، طلب منه دراسة مفصلة عن المشروع. أعدّها بدرخان، وبناء عليها تم إنشاء أول استديو لتصوير الأفلام في مصر والعالم العربي، وفيه 3 بلاتوهات للتصوير، ومعمل للتحميض والطبع، وقاعات لتسجيل الصوت والموسيقى ولعمل المونتاج. وكانت هذه أول خدمة قدّمها أحمد بدرخان للسينما. وفي المقابل عيّنه استديو مصر بوظيفة مخرج براتب قدره عشرون جنيها في الشهر، وكلّفه بإخراج باكورة الإنتاج.
كان "وداد" أول فيلم ينتجه استديو مصر، الذي تعاقد مع كوكب الشرق أم كلثوم لتكون البطلة، وكتب الشاعر أحمد رامي القصة. وكُلّف أحمد بدرخان بكتابة السيناريو والإخراج. كتب السيناريو فعلاً واختار فريق العمل، وفيه جمال مدكور مساعدًا للمخرج، ونيازي مصطفى للمونتاج. (كلاهما عمل في المونتاج قبل التحول إلى الإخراج). لكن المخرج أحمد سالم مدير استديو مصر آنذاك، شعر بالغيرة وأبعد أحمد بدرخان عن إخراج الفيلم بحجة أنه ليس من المستحب أن يكون باكورةَ إنتاج استديو مصر فيلمٌ من بطولة النجمة أم كلثوم ومن إخراج شاب ليست لديه أعمال سابقة! اعتبر بدرخان، وعن حق، أن القرار مسٌ بكرامته، فاستقال فوراً من الاستديو وتولّى فريتز كرامب، الألماني المقيم في مصر والموظف في استديو مصر بصفة خبير، إخراج الفيلم.
تعاطفت أم كلثوم مع المخرج الشاب وأصرّت على أن يكون مخرج ثاني أفلامها. وهذا ما حدث بالفعل. بل إن أحمد بدرخان أخرج أربعة من الأفلام الستة التي مثلتها أم كلثوم: "نشيد الأمل" أو "منّيت شبابي"، ثم "دنانير"، و"عايدة"، و"فاطمة". أما الفيلم السادس "سلامة" فأخرجه منتجه توجو مزراحي. ومن سنة 1937 إلى حين وفاته أخرج بدرخان نحو أربعين فيلماً.
مخرج أفلام أم كلثوم هو الذي قدّم أسمهان وفريد الأطرش في السينما لأول مرة في فيلم "انتصار الشباب" سنة 1941. بعده قامت أسمهان ببطولة فيلم "غرام وانتقام"، من إخراج يوسف وهبي، وتوفيت قبل تصوير اللقطات الأخيرة. أما فريد الأطرش فتعاون كثيرا مع المخرج أحمد بدرخان، فكان بطل تسعة أفلام من إخراجه، منها "لحن حبي" و"آخر كدبة" و"إزاي أنساك" و"عهد الهوى".
ويمكن اعتبار أحمد بدرخان من أكثر السينمائيين المصريين الذين أخرجوا أفلاماً أبطالها نجوم الغناء. غير أم كلثوم وأسمهان وفريد الأطرش، أخرج أفلاماً من بطولة صباح ونور الهدى ومحمد فوزي ومحمد عبد المطلب وعبد العزيز محمود وعبد الغني السيد ومحمد الكحلاوي ونجاة الصغيرة. وهو أصلاً من هواة الموسيقى والطرب، بل واشترك في كتابة أغاني فيلم "الأبرياء". وحين صوّرت أم كلثوم قصيدة أحمد شوقي "إلى عرفات الله" التي لحنها رياض السنباطي لحساب التلفزيون المصري، طلبت أن يكون أحمد بدرخان هو المخرج.
ثمة لون آخر أحبه أحمد بدرخان، وهو الأفلام التي تتناول سير الشخصيات. أخرج سنة 1952 فيلم "مصطفى كامل"، عن السياسي المصري مؤسس "الحزب الوطني". والفيلم يعرض صور الكفاح من أجل الاستقلال ويندد بالاحتلال البريطاني. لم تتحمس شركات الإنتاج السينمائي لتبنّي مشروع الفيلم، لأنها لم تجد فيه عناصر تجارية مضمونة، فما كان من بدرخان إلا أن أنتجه بنفسه. وقد منعت الرقابة آنذاك عرضه، فمني بدرخان بخسارة مالية. وظل الفيلم حبيس العلب إلى أن تمّ الإفراج عنه بعد إطاحة الملك فاروق وتغيير النظام.
كذلك أخرج أحمد بدرخان فيلم "سيد درويش"، عن الملحن العبقري، وأسند دور البطولة فيه إلى المخرج المسرحي كرم مطاوع وأمامه هند رستم، وفيلم "الله معنا" عن القضية الفلسطينية أنجزه سنة 1955، وفيه اجتمعت فاتن حمامة وماجدة معاً في فيلم واحد. وأعتقد أنها المرة الأولى والأخيرة.
لم يكن غريباً أن أحمد بدرخان كان معجباً بالسينما الفرنسية وبأفلام الثلاثينيات، هو الذي درس الإخراج في باريس، بل وبالسينما الفرنسية عموماً في المراحل اللاحقة. وهو الذي جعلنا نحب أفلام مارسيل كارنيه ("ميناء الضباب"، و"زوّار المساء"، و"أبناء الفردوس"، و"أبواب الليل")، ورينه كلير ("جميلات الليل"، و"بوابة ليلاً")، ورينه كليمان ("الألعاب الممنوعة")، وجاك تاتي ("عطلات المسيو هولو")، وصولاً إلى أفلام "الموجة الجديدة" لجان لوك غودار ("على آخر نفس")، وفرنسوا تروفو ("جول وجيم")، وآنياس فاردا ("كليو من الخامسة إلى السابعة"). وقد عرض هذه الأفلام جميعاً في المعهد العالي للسينما. كان معجباً بالتعاون المثمر بين المخرج القدير مارسيل كارنيه، والشاعر جاك بريفير ككاتب سيناريو الأفلام التي شاهدناها، وبالشحنة الإنسانية الحارة في فيلم رينه كليمان، وبالأداء الرائع للطفلة بريجيت فوسيه التي ستصبح الممثلة المعروفة لاحقاً. وكان يرى في جاك تاتي امتداداً عصرياً في سكّة شارلي شابلن. أما فيلم آنياس فاردا فهو فريد في تجربته، وفيه يحاكي زمن الفيلم الزمن الواقعي ونحن نعيش مع كليو ساعتي انتظار نتيجة فحص السرطان بكل ما فيها من توتر وصدق إنساني.
كان أحمد بدرخان وراء دعوة المخرج رينه كلير والمؤرخ جورج سادول لزيارة معهد السينما. ومعه التقيت بالناقد الفرنسي الشهير مارسيل مارتان في المركز الثقافي الفرنسي، وكنا ندرس كتابه "اللغة السينمائية". وكان أيضا من داعمي مشروع ترجمة الكتب المختصة بفنون السينما إلى اللغة العربية، بل وترجم بعضها، ومنها كتاب "ما هي السينما" للناقد الفرنسي الشهير أندريه بازان، وقد اشترك د. ريمون فرنسيس معه في الترجمة.
وعندما كان أحمد بدرخان عميداً لمعهد السينما كان صديق عمره جمال مدكور وكيل المعهد (بمثابة نائب العميد). وجمال مدكور زميله في مدرسة الفرير الثانوية، ورفيقه في مشاهدة الأفلام والمسرحيات، وكان في عداد الوفد الذي حصل على منحة للدراسة في باريس. وقد عمل مساعداً للمخرج بدرخان وتولى مونتاج أفلامه الأولى لفترة حتى بعد أن أصبح هو الآخر مخرجاً سنة 1942 وأنجز فيلم "أخيرا تزوجت". ولم يمارس الإخراج لفترة طويلة، إذ كان فيلم "آثار في الرمال" آخر أفلامه سنة 1954، تفرّغ بعدها لوظائف إدارية فنيّة في المؤسسات التي تُعنى بالسينما.
وفي السنة الدراسية (1963/ 1964) التي كان فيها أحمد بدرخان عميداً لمعهد السينما، التحق ابنه علي بالمعهد ليدرس الإخراج. والواقع أنه كان يرغب أساساً في أن يصبح ضابطاً في البحرية التجارية، لكن الفكرة لم ترق لبدرخان الأب نظراً لأنها تتطلب الكثير من الأسفار، فنصح لابنه دراسة السينما وزيّن له الأمر. ولم يتلقَّ علي الطالب معاملة خاصة أيام عمادة أبيه. وسلك الطريق الطبيعية ليصبح مخرجاً ناجحاً: الدراسة الأكاديمية وقد تخرّج سنة 1967، ثم البعثة التدريبية إلى "مدينة السينما" في روما Cinecittà، ثم التدرج كمساعد لمخرجين كبار: يوسف شاهين (فيلمي "الاختيار" و"العصفور")، وفطين عبد الوهاب ("أرض النفاق")، وأحمد ضياء الدين ("أشياء لا تشترى")، ومع أبيه أحمد بدرخان في ثلاثة أفلام، آخرها "نادية". ومن بعد أصبح مخرجاً مرموقاً أخرج أفلاماً مميزة، من بينها "الكرنك"، و"شفيقة ومتولي"، و"أهل القمة".
وكان أحمد بدرخان قد تزوج ثلاث مرات. من الممثلة روحية خالد، ثم من المطربة أسمهان، ثم من الممثلة سلوى علام. أما زواجه من أسمهان فكان الأقصر عمراً، إذ دام أربعين يوماً فقط لا غير. كانت قصة حب سريعة قد نشأت بينهما أثناء تصوير فيلم "انتصار الشباب"، لكن اختلاف الأمزجة لم يكتب لهذه الزيجة العمر الطويل.
عندما توفي أحمد بدرخان كان ينقصه اثنان وعشرون يوماً ليبلغ الستين من عمره. وبرغم العمر القصير نسبياً، أنجز بدرخان الكثير.