بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر)، عقوداً من حياته، مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفنّ. تنشر "العربي الجديد" كل يوم اثنين مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءاته مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس وغيرها من العواصم.
في ختام مهرجان دمشق السينمائي الدولي سنة 1979 وبعد تهنئة الأصدقاء الفائزين: التونسي رضا الباهي، والسوري عمر أميرلاي، والعراقيان محمد شكري جميل وقيس الزبيدي، كان لي لقاء مع المخرج الكبير يوسف شاهين، في ختامه أخبرني أنه ذاهب في اليوم التالي إلى بيروت وأخبرته أنني ذاهب إلى زحلة، فلمع بريق في عينيه وقال: "خذني معك". قلت له إنني سأذهب مبكراً، سيحضر التاكسي الساعة السادسة صباحاً. قال: "أحسن. موعدي الساعة الواحدة ظهراً. سنمضي فترة الصباح في زحلة".
كنت أعرف علاقة يوسف شاهين بزحلة التي ولد فيها أبوه المحامي أديب شاهين صوايا، لكنني في هذه الزيارة اكتشفت المزيد. بلغنا زحلة عند الساعة السابعة صباحاً. تناولنا وجبة الإفطار عند أختي وعائلتها وأودع حقيبته عندها وخرجنا نتمشّى في شارع البولفار. وعلى بعد أمتار مررنا بمكاتب جريدة "زحلة الفتاة" وكان صاحباها جان وميشال بخاش أمام المبنى. فجأة سمعت صوت جان منادياً "غابي" (بالجيم المصرية) فالتفت يوسف شاهين مبتسماً. سألته "من غابي؟" قال: "أنا! هذا هو اسمي. جبرائيل أديب شاهين". تعانق مع الأخوين بخاش وعرفت أنهما من أصدقاء الطفولة. شربنا القهوة في مكتب الجريدة. وأبدى يوسف شاهين رغبته بزيارة السيدة حنينة الراعي. سألتُ من تكون؟ أجاب شاهين: بنت خال والدي! وأضاف جان بخاش: "أم جوزف حوكو مختار حارة الراسية"! وكان اللقاء حاراً، قبّلته وقالت له "يرحم بيّك"، وحمّلته أكياساً فيها برغل وكشك وزعتر.
اقــرأ أيضاً
أحببت أفلام يوسف شاهين منذ أحببت السينما. من شدة إعجابي بفيلم "باب الحديد" شاهدته ثلاث مرّات. وهو من إخراجه وبطولته أيضاً أمام هند رستم التي كانت قد اشتركت في أول فيلم أخرجه "بابا أمين" (1950) بدور صغير للغاية. كانت في بداياتها (في 1949 كانت كومبارس في فيلم "غزل البنات"). وكانت فاتن حمامة بطلة أفلامه الثلاثة الأولى: في الأول أمام كمال الشناوي، وفي الثاني "إبن النيل" أمام شكري سرحان، وفي الثالث "المهرج الكبير" أمام يوسف وهبي، وهو من إنتاج مدير التصوير عبده نصر، ومونتاج كمال الشيخ الذي سيصبح مخرجاً. أما الفيلم الثاني فكان من إنتاج ماري كويني التي ستكون منتجة وبطلة فيلمه الخامس "نساء بلا رجال" (1953) قبل اعتزالها التمثيل. وهي والدة نادر جلال الذي سيكون فيما بعد تلميذ يوسف شاهين في معهد السينما. وفي فيلمه السادس "صراع في الوادي" قدّم عمر الشريف للمرة الأولى في السينما. وكلاهما خريج ثانوية فكتوريا كوليدج في الإسكندرية. وكان يوسف شاهين قد بدأ الدراسة في ثانوية سان مارك الواقعة على بعد خطوات من بيت أهله. فيلم "باب الحديد" جعلني أطمح إلى دراسة السينما. وهو قرار اتخذته بعد حصولي على الثانوية العامة (البكالوريا) سنة 1962. في صيف ذلك العام حضرت تصوير بعض مشاهد فيلم "الناصر صلاح الدين" في قلعة قايتباي في الإسكندرية. رافقت محمد سلطان، الذي سيصبح الممثل والملحن المعروف، وكان في بداياته الفنية مشاركاً بدور في هذا الفيلم، اختاره له يوسف شاهين بسبب وسامته وبراعته في ركوب الخيل. مبهوراً شاهدت يوسف شاهين عن قرب وهو يدير الممثلين والفريق الفني. وفي خريف العام ذاته تقدمت بطلب للالتحاق بالمعهد العالي للسينما في القاهرة. وكان قبول الطلاب يتمّ بعد اختبار اللجنة الفاحصة، وكان يوسف شاهين في عدادها. وتبلغت لاحقاً أنني نجحت.
كان السواد الأعظم من طلبة المعهد من المعجبين بيوسف شاهين. لكنه كان يلقي محاضراته على طلبة السنتين الثالثة والرابعة. وكان علينا الانتظار لسنتين تاليتين لنصبح من تلامذته. كان يدرّس مادة الإخراج. وكان من تلامذته آنذاك من الذين أصبحوا مخرجين معروفين: أشرف فهمي، وممدوح شكري، ونادر جلال، ومحمد عبد العزيز، ونبيهة لطفي، وحسين فهمي الذي درس الإخراج واحترف التمثيل. وكان هؤلاء يحكون لنا عن طريقة تدريس يوسف شاهين، ومنهجه الأساسي شرحٌ لكتاب "أسس الإخراج المسرحي" لألكسندر دين Fundamentals of play directing وهو الكتاب الذي درسه في أميركا، في معهد باسادينا في لوس أنجليس، وفيه ما يصلح أيضاً ليكون أساس الإخراج السينمائي.
درس يوسف شاهين في أميركا فن الإخراج المسرحي لكنه أصبح مخرجاً سينمائياً، وبامتياز. حين عاد إلى القاهرة عمل مساعداً لمخرج إيطالي مقيم في مصر يدعى فريونتشو في فيلم "امرأة من نار". وبعده مباشرة أخرج فيلمه الأول! ولم يخرج للمسرح إلا مرة واحدة، بعد سنوات وسنوات، وفي باريس. عام 1992، ومع أعرق فرقة مسرحية "الكوميدي فرانسيز"، أخرج بنجاح مسرحية "كاليغولا" لألبير كامو. أهم ما في كتاب "فوندامينتالز" كما كنا نسمّيه بالمختصر فصلٌ عن "شدّ الانتباه" وقد طبّقه يوسف شاهين تماماً في أفلامه. من الأمثلة على ذلك: مجموعة يرتدون الأسود وواحد ثوبه أبيض. يسرق الانتباه لتميّزه عن المجموعة. أو: أناس جالسون وواحد واقف، أو أحدهم يجلس وحوله أناس واقفون. أو: كلهم صامتون وواحد يتكلم. أو مجموعة رجال وامرأة. أو العكس. التمايز جاذبٌ للانتباه. أو هم في القاعة وهو في مستوى أعلى، على المنصة. أو هم في جانب وهو في الجانب الآخر (على خشبة المسرح أو ضمن الكادر السينمائي). وإذا وجد ثلاثة أشخاص ينظر الأول إلى الثاني، فالمتفرّج يتابع نظراته ويتم التركيز على الثاني، وإذا كان هذا ينظر إلى الثالث استقر النظر على الأخير.
حين أصبحت في الصف الثالث كنت مستعداً بلهفة لمحاضرات يوسف شاهين. لكن ذلك لم يحدث! إذ في ذلك الوقت هاجر يوسف شاهين إلى لبنان وأقام في بيروت وأخرج "بياع الخواتم" (فيروز)، وهو من إنتاج نادر الأتاسي. ثم فيلم "رمال من ذهب" وهو إنتاج لبناني، فرنسي، إسباني، مغربي مشترك من إنتاج اللبناني إبراهيم المدلل وبطولة فاتن حمامة، وفيه شارك الملحن والمطرب المغربي عبد الوهاب الدوكالي، والثنائي الكوميدي السوري دريد لحام ونهاد قلعي كضيفي شرف.
لم أشاهد "رمال من ذهب" لكنني تمتعت بمشاهدة "بياع الخواتم" وكتبت عنه مقالةً في "النهار" البيروتية دافعت فيها عن أسلوب إخراجه. كان البعض قد انتقد تصوير معظم الفيلم في الاستوديو والقرية ديكور مع أن لبنان غني بالقرى الجميلة. لكن يوسف شاهين اعتمد على النص الرحباني وبدايته تقول "رح نحكي قصة ضيعة، لا القصة صحيحة ولا الضيعة موجودة". ولو صوّر في قرية موجودة لكان أخطأ في الإخراج. لذلك صور في قرية افتراضية، ظهرت فيها البيوت صغيرة بالقياس إلى أحجام البشر. وحين سنحت الفرصة خرج بالكاميرا إلى الطبيعة (لوحة أمي نامت ع بكير وعيد العزابي ونواطير التلج). لاحقاً أطلعت يوسف شاهين على المقالة وأعجبه التحليل.
حين رجع يوسف شاهين إلى قواعده في القاهرة، كنت في طريق العودة إلى لبنان. فيما بعد حدث أنني التقيته غير مرة في بيروت أو القاهرة أو دمشق أو باريس. قبل أن يرجع إلى القاهرة تلقى ضمانة من الرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي كان من كبار هواة السينما ومن المعجبين بأفلام يوسف شاهين. وكان شاهين قد غادر القاهرة بعد مشادات مع كبار موظفي مؤسسة السينما الحكومية. هم بيروقراطيون حتى النخاع وهو النقيض تماماً. وكان الخلاف يتعلق بطريقة تنفيذ مشروع إنتاج مشترك بين الاتحاد السوفييتي ومصر، ويتناول الفيلم موضوع السد العالي العزيز على قلب الريّس.
اقــرأ أيضاً
كان فيلم "النيل والحياة" أول إخراج ليوسف شاهين بعد العودة. كتب السيناريو السوفييتي نيكولاي فيغوروفسكي وشارك فيه الكاتب والشاعر عبد الرحمن الشرقاوي. قام صلاح ذو الفقار، وعماد حمدي، ومديحة سالم، بالأدوار الرئيسية مع ممثلات وممثلين سوفييت. ومرة ثانية نشأ الخلاف حول الفيلم، لكن بين "موسفيلم" وهي الجهة المنتجة السوفييتية، ومؤسسة السينما المصرية التي اعتبرت الفيلم لا يظهر بما فيه الكفاية دور المصريين في بناء السدّ العالي وكان التركيز على دور السوفييت أكثر. وأعيد النظر في الفيلم. كُتبت معالجة جديدة للنص شارك فيها السوفييتي فيغوروفسكي وكان نظيره المصري هذه المرة الفنان التشكيلي والإعلامي وكاتب السيناريو حسن فؤاد. (وهو بالمناسبة يصغر يوسف شاهين بيوم واحد فقط. شاهين مولود في 25 يناير/ كانون الثاني 1926 وحسن فؤاد في اليوم التالي من الشهر نفسه والسنة ذاتها). ظهر الفيلم بعنوان "الناس والنيل" كأنه "نسخة مزيدة ومنقحة" من الفيلم الأول، وعُرض في يناير 1972 ولم يكن من أفلام يوسف شاهين الجيّدة. وهو من بطولة سعاد حسني، وعزت العلايلي، مع صلاح ذو الفقار (الذي شارك بتمثيل دور رئيسي في "النيل والحياة").
في عقد السبعينات من القرن الماضي، أخرج يوسف شاهين أفلاماً تبقى في سجل أفلامه المهمة، أولها "الأرض" وتلته الأفلام التي بدأ فيها أسلوبه ينتمي إلى ما يعرف بـ "سينما المؤلف" أي أن الإخراج هو صاحب الرؤية التأليفية حتى لو كان النصّ من غيره، إذ يصبح من وجهة نظره. وكانت بداية هذا النهج بأفلام "الاختيار"، و"العصفور" و"عودة الابن الضال". تلت ذلك سلسلة الأفلام التي تناولت سيرته الذاتية. كتب رباعية الإسكندرية السينمائية التي روت تجربة حياته ممزوجة بالواقع المصري المرافق لها مع تحولاته الاجتماعية والسياسية. أول أفلام الرباعية "إسكندرية ليه" (1979) وفيه يؤدي ممثله المفضّل محمود المليجي دور أبيه المحامي. وآخرها "إسكندرية – نيويورك" (2004) وبينهما "حدوتة مصرية"، و"إسكندرية كمان وكمان".
كان يوسف شاهين قد أسس سنة 1972 شركة "أفلام مصر العالمية" فأصبح منتج أفلامه بنفسه. باكورة إنتاجها فيلم "العصفور"، وهي منتجة آخر أفلامه "هي فوضى" (2007) وهو إخراج مشترك تولاه مع خالد يوسف. وما زالت الشركة قائمة يديرها ماريان، وإيلي، وغابي، ورمزي خوري، أبناء شقيقة يوسف شاهين وكبير موزعي الأفلام جان خوري صاحب شركة "أفلام الشرق". ودخل يوسف شاهين مجال السينما العالمية من الباب الرئيسي. كان اسمه معروفاً ويحظى بتقدير عالمي. في 1985 أخرج الفيلم الفرنسي "وداعاً بونابرت" من بطولة باتريس شيرو، وميشال بيكولي، وأفلاماً مصرية ببطولة نجوم عالميين مثل "اليوم السادس" (داليدا، وفيه يوسف شاهين ممثل أيضاً) و"المهاجر" بمشاركة ميشال بيكولي. وفي 1997 نال جائزة اليوبيل الذهبي في مهرجان "كانّ" تقديراً لمجمل أعماله. وكان من قبل قد شارك بأفلامه بعدة مهرجانات دولية، وحصد جوائز، منها "الدب الفضي" في مهرجان برلين عن فيلم "إسكندرية ليه" 1979.
توفي يوسف شاهين في 27 يوليو/ تموز 2008، وما زال المعجبون الكثر في عموم العالم العربي يتابعون إعادة عرض أفلامه باهتمام وتقدير. ولم تنضب محبته في قلوب الناس، خصوصاً في مدينتين: زحلة (لبنان) التي أطلقت بلديتها سنة 2001 اسمه على شارع رئيسي في المدينة باعتباره سليلها، والإسكندرية (مصر) التي ولد ونشأ فيها، وفيها مثواه الأخير في مدفن العائلة في مقابر الروم الكاثوليك. علماً بأنه أمضى السنوات الأكثر من عمره في القاهرة، وفيها كتب اسمه الفني.
كنت أعرف علاقة يوسف شاهين بزحلة التي ولد فيها أبوه المحامي أديب شاهين صوايا، لكنني في هذه الزيارة اكتشفت المزيد. بلغنا زحلة عند الساعة السابعة صباحاً. تناولنا وجبة الإفطار عند أختي وعائلتها وأودع حقيبته عندها وخرجنا نتمشّى في شارع البولفار. وعلى بعد أمتار مررنا بمكاتب جريدة "زحلة الفتاة" وكان صاحباها جان وميشال بخاش أمام المبنى. فجأة سمعت صوت جان منادياً "غابي" (بالجيم المصرية) فالتفت يوسف شاهين مبتسماً. سألته "من غابي؟" قال: "أنا! هذا هو اسمي. جبرائيل أديب شاهين". تعانق مع الأخوين بخاش وعرفت أنهما من أصدقاء الطفولة. شربنا القهوة في مكتب الجريدة. وأبدى يوسف شاهين رغبته بزيارة السيدة حنينة الراعي. سألتُ من تكون؟ أجاب شاهين: بنت خال والدي! وأضاف جان بخاش: "أم جوزف حوكو مختار حارة الراسية"! وكان اللقاء حاراً، قبّلته وقالت له "يرحم بيّك"، وحمّلته أكياساً فيها برغل وكشك وزعتر.
أحببت أفلام يوسف شاهين منذ أحببت السينما. من شدة إعجابي بفيلم "باب الحديد" شاهدته ثلاث مرّات. وهو من إخراجه وبطولته أيضاً أمام هند رستم التي كانت قد اشتركت في أول فيلم أخرجه "بابا أمين" (1950) بدور صغير للغاية. كانت في بداياتها (في 1949 كانت كومبارس في فيلم "غزل البنات"). وكانت فاتن حمامة بطلة أفلامه الثلاثة الأولى: في الأول أمام كمال الشناوي، وفي الثاني "إبن النيل" أمام شكري سرحان، وفي الثالث "المهرج الكبير" أمام يوسف وهبي، وهو من إنتاج مدير التصوير عبده نصر، ومونتاج كمال الشيخ الذي سيصبح مخرجاً. أما الفيلم الثاني فكان من إنتاج ماري كويني التي ستكون منتجة وبطلة فيلمه الخامس "نساء بلا رجال" (1953) قبل اعتزالها التمثيل. وهي والدة نادر جلال الذي سيكون فيما بعد تلميذ يوسف شاهين في معهد السينما. وفي فيلمه السادس "صراع في الوادي" قدّم عمر الشريف للمرة الأولى في السينما. وكلاهما خريج ثانوية فكتوريا كوليدج في الإسكندرية. وكان يوسف شاهين قد بدأ الدراسة في ثانوية سان مارك الواقعة على بعد خطوات من بيت أهله. فيلم "باب الحديد" جعلني أطمح إلى دراسة السينما. وهو قرار اتخذته بعد حصولي على الثانوية العامة (البكالوريا) سنة 1962. في صيف ذلك العام حضرت تصوير بعض مشاهد فيلم "الناصر صلاح الدين" في قلعة قايتباي في الإسكندرية. رافقت محمد سلطان، الذي سيصبح الممثل والملحن المعروف، وكان في بداياته الفنية مشاركاً بدور في هذا الفيلم، اختاره له يوسف شاهين بسبب وسامته وبراعته في ركوب الخيل. مبهوراً شاهدت يوسف شاهين عن قرب وهو يدير الممثلين والفريق الفني. وفي خريف العام ذاته تقدمت بطلب للالتحاق بالمعهد العالي للسينما في القاهرة. وكان قبول الطلاب يتمّ بعد اختبار اللجنة الفاحصة، وكان يوسف شاهين في عدادها. وتبلغت لاحقاً أنني نجحت.
كان السواد الأعظم من طلبة المعهد من المعجبين بيوسف شاهين. لكنه كان يلقي محاضراته على طلبة السنتين الثالثة والرابعة. وكان علينا الانتظار لسنتين تاليتين لنصبح من تلامذته. كان يدرّس مادة الإخراج. وكان من تلامذته آنذاك من الذين أصبحوا مخرجين معروفين: أشرف فهمي، وممدوح شكري، ونادر جلال، ومحمد عبد العزيز، ونبيهة لطفي، وحسين فهمي الذي درس الإخراج واحترف التمثيل. وكان هؤلاء يحكون لنا عن طريقة تدريس يوسف شاهين، ومنهجه الأساسي شرحٌ لكتاب "أسس الإخراج المسرحي" لألكسندر دين Fundamentals of play directing وهو الكتاب الذي درسه في أميركا، في معهد باسادينا في لوس أنجليس، وفيه ما يصلح أيضاً ليكون أساس الإخراج السينمائي.
درس يوسف شاهين في أميركا فن الإخراج المسرحي لكنه أصبح مخرجاً سينمائياً، وبامتياز. حين عاد إلى القاهرة عمل مساعداً لمخرج إيطالي مقيم في مصر يدعى فريونتشو في فيلم "امرأة من نار". وبعده مباشرة أخرج فيلمه الأول! ولم يخرج للمسرح إلا مرة واحدة، بعد سنوات وسنوات، وفي باريس. عام 1992، ومع أعرق فرقة مسرحية "الكوميدي فرانسيز"، أخرج بنجاح مسرحية "كاليغولا" لألبير كامو. أهم ما في كتاب "فوندامينتالز" كما كنا نسمّيه بالمختصر فصلٌ عن "شدّ الانتباه" وقد طبّقه يوسف شاهين تماماً في أفلامه. من الأمثلة على ذلك: مجموعة يرتدون الأسود وواحد ثوبه أبيض. يسرق الانتباه لتميّزه عن المجموعة. أو: أناس جالسون وواحد واقف، أو أحدهم يجلس وحوله أناس واقفون. أو: كلهم صامتون وواحد يتكلم. أو مجموعة رجال وامرأة. أو العكس. التمايز جاذبٌ للانتباه. أو هم في القاعة وهو في مستوى أعلى، على المنصة. أو هم في جانب وهو في الجانب الآخر (على خشبة المسرح أو ضمن الكادر السينمائي). وإذا وجد ثلاثة أشخاص ينظر الأول إلى الثاني، فالمتفرّج يتابع نظراته ويتم التركيز على الثاني، وإذا كان هذا ينظر إلى الثالث استقر النظر على الأخير.
حين أصبحت في الصف الثالث كنت مستعداً بلهفة لمحاضرات يوسف شاهين. لكن ذلك لم يحدث! إذ في ذلك الوقت هاجر يوسف شاهين إلى لبنان وأقام في بيروت وأخرج "بياع الخواتم" (فيروز)، وهو من إنتاج نادر الأتاسي. ثم فيلم "رمال من ذهب" وهو إنتاج لبناني، فرنسي، إسباني، مغربي مشترك من إنتاج اللبناني إبراهيم المدلل وبطولة فاتن حمامة، وفيه شارك الملحن والمطرب المغربي عبد الوهاب الدوكالي، والثنائي الكوميدي السوري دريد لحام ونهاد قلعي كضيفي شرف.
لم أشاهد "رمال من ذهب" لكنني تمتعت بمشاهدة "بياع الخواتم" وكتبت عنه مقالةً في "النهار" البيروتية دافعت فيها عن أسلوب إخراجه. كان البعض قد انتقد تصوير معظم الفيلم في الاستوديو والقرية ديكور مع أن لبنان غني بالقرى الجميلة. لكن يوسف شاهين اعتمد على النص الرحباني وبدايته تقول "رح نحكي قصة ضيعة، لا القصة صحيحة ولا الضيعة موجودة". ولو صوّر في قرية موجودة لكان أخطأ في الإخراج. لذلك صور في قرية افتراضية، ظهرت فيها البيوت صغيرة بالقياس إلى أحجام البشر. وحين سنحت الفرصة خرج بالكاميرا إلى الطبيعة (لوحة أمي نامت ع بكير وعيد العزابي ونواطير التلج). لاحقاً أطلعت يوسف شاهين على المقالة وأعجبه التحليل.
حين رجع يوسف شاهين إلى قواعده في القاهرة، كنت في طريق العودة إلى لبنان. فيما بعد حدث أنني التقيته غير مرة في بيروت أو القاهرة أو دمشق أو باريس. قبل أن يرجع إلى القاهرة تلقى ضمانة من الرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي كان من كبار هواة السينما ومن المعجبين بأفلام يوسف شاهين. وكان شاهين قد غادر القاهرة بعد مشادات مع كبار موظفي مؤسسة السينما الحكومية. هم بيروقراطيون حتى النخاع وهو النقيض تماماً. وكان الخلاف يتعلق بطريقة تنفيذ مشروع إنتاج مشترك بين الاتحاد السوفييتي ومصر، ويتناول الفيلم موضوع السد العالي العزيز على قلب الريّس.
كان فيلم "النيل والحياة" أول إخراج ليوسف شاهين بعد العودة. كتب السيناريو السوفييتي نيكولاي فيغوروفسكي وشارك فيه الكاتب والشاعر عبد الرحمن الشرقاوي. قام صلاح ذو الفقار، وعماد حمدي، ومديحة سالم، بالأدوار الرئيسية مع ممثلات وممثلين سوفييت. ومرة ثانية نشأ الخلاف حول الفيلم، لكن بين "موسفيلم" وهي الجهة المنتجة السوفييتية، ومؤسسة السينما المصرية التي اعتبرت الفيلم لا يظهر بما فيه الكفاية دور المصريين في بناء السدّ العالي وكان التركيز على دور السوفييت أكثر. وأعيد النظر في الفيلم. كُتبت معالجة جديدة للنص شارك فيها السوفييتي فيغوروفسكي وكان نظيره المصري هذه المرة الفنان التشكيلي والإعلامي وكاتب السيناريو حسن فؤاد. (وهو بالمناسبة يصغر يوسف شاهين بيوم واحد فقط. شاهين مولود في 25 يناير/ كانون الثاني 1926 وحسن فؤاد في اليوم التالي من الشهر نفسه والسنة ذاتها). ظهر الفيلم بعنوان "الناس والنيل" كأنه "نسخة مزيدة ومنقحة" من الفيلم الأول، وعُرض في يناير 1972 ولم يكن من أفلام يوسف شاهين الجيّدة. وهو من بطولة سعاد حسني، وعزت العلايلي، مع صلاح ذو الفقار (الذي شارك بتمثيل دور رئيسي في "النيل والحياة").
في عقد السبعينات من القرن الماضي، أخرج يوسف شاهين أفلاماً تبقى في سجل أفلامه المهمة، أولها "الأرض" وتلته الأفلام التي بدأ فيها أسلوبه ينتمي إلى ما يعرف بـ "سينما المؤلف" أي أن الإخراج هو صاحب الرؤية التأليفية حتى لو كان النصّ من غيره، إذ يصبح من وجهة نظره. وكانت بداية هذا النهج بأفلام "الاختيار"، و"العصفور" و"عودة الابن الضال". تلت ذلك سلسلة الأفلام التي تناولت سيرته الذاتية. كتب رباعية الإسكندرية السينمائية التي روت تجربة حياته ممزوجة بالواقع المصري المرافق لها مع تحولاته الاجتماعية والسياسية. أول أفلام الرباعية "إسكندرية ليه" (1979) وفيه يؤدي ممثله المفضّل محمود المليجي دور أبيه المحامي. وآخرها "إسكندرية – نيويورك" (2004) وبينهما "حدوتة مصرية"، و"إسكندرية كمان وكمان".
كان يوسف شاهين قد أسس سنة 1972 شركة "أفلام مصر العالمية" فأصبح منتج أفلامه بنفسه. باكورة إنتاجها فيلم "العصفور"، وهي منتجة آخر أفلامه "هي فوضى" (2007) وهو إخراج مشترك تولاه مع خالد يوسف. وما زالت الشركة قائمة يديرها ماريان، وإيلي، وغابي، ورمزي خوري، أبناء شقيقة يوسف شاهين وكبير موزعي الأفلام جان خوري صاحب شركة "أفلام الشرق". ودخل يوسف شاهين مجال السينما العالمية من الباب الرئيسي. كان اسمه معروفاً ويحظى بتقدير عالمي. في 1985 أخرج الفيلم الفرنسي "وداعاً بونابرت" من بطولة باتريس شيرو، وميشال بيكولي، وأفلاماً مصرية ببطولة نجوم عالميين مثل "اليوم السادس" (داليدا، وفيه يوسف شاهين ممثل أيضاً) و"المهاجر" بمشاركة ميشال بيكولي. وفي 1997 نال جائزة اليوبيل الذهبي في مهرجان "كانّ" تقديراً لمجمل أعماله. وكان من قبل قد شارك بأفلامه بعدة مهرجانات دولية، وحصد جوائز، منها "الدب الفضي" في مهرجان برلين عن فيلم "إسكندرية ليه" 1979.
توفي يوسف شاهين في 27 يوليو/ تموز 2008، وما زال المعجبون الكثر في عموم العالم العربي يتابعون إعادة عرض أفلامه باهتمام وتقدير. ولم تنضب محبته في قلوب الناس، خصوصاً في مدينتين: زحلة (لبنان) التي أطلقت بلديتها سنة 2001 اسمه على شارع رئيسي في المدينة باعتباره سليلها، والإسكندرية (مصر) التي ولد ونشأ فيها، وفيها مثواه الأخير في مدفن العائلة في مقابر الروم الكاثوليك. علماً بأنه أمضى السنوات الأكثر من عمره في القاهرة، وفيها كتب اسمه الفني.