يعاني السوق الفني أمام جائحة فيروس كورونا من خلل وظيفي، لا تقتصر أبعاده على الأدوات والتطبيق ووسائل الإنتاج الدفاعية المتبعة، بل شمل أيضًا تحولًا، ولو افتراضيًا بحسب الظروف الراهنة، في شكل العلاقة بين المنتج والمستهلك من جهة، وبين المنتج والبديل الفني من جهة أخرى.
تتضح هذه المعالم مع ما تشهده المنصات الرقمية، ووسائل التواصل الاجتماعي (باعتبارها الجهة الأكثر استفادة أمام قرارات الحجر المنزلي) من زخم أدائي لعروض فنية متنوعة ما بين موسيقى وغناء؛ إذ نرى أدوارًا مكثفة، سواء لفئات او أفراد ممن يمتلكون مواهب فنية دفعت بها قرارات الحجر إلى الواجهة بشكل أوسع مما كانت عليه قبل انتشار الفيروس، بعيدًا عن أي تمويل تجاري أو مؤسساتي أو حكومي، ووضعتهم في مواجهة شكلية، لا يمكن التنبؤ بمدى جدية استمرارها ومستقبلها في الوقت الحالي، مع الهيمنة الإنتاجية السائدة التي تشق الأنفس لضخ الأعمال الفنية في السوق الرقمي بعد تجميد حركة الاحتفالات والمبيعات.
هذه الفرضية تدعونا للعودة إلى نشأة الموسيقى البديلة، لنستشف بعض التأويلات الممكن مناقشتها لفهم الوضع الراهن. انتشرت الموسيقى البديلة كتوجّه كسر احتكار الرائج من الأعمال الموسيقية المسلّعة والمعدة للاستهلاك العمومي، وفرضت نفسها كفن متمرد على متطلبات المنتجين وموزعي الموسيقى المحددة بالانتشار وتحقيق الأرباح. وحافظت على مكانها داخل دائرة مناهضة التيار العام. لكن هناك نظرية تقول إن "البديل، في مرحلة لاحقة، يصبح سائدًا". فما الذي يدفع أي نوع أو تيار موسيقي جديد إلى أن يفقد قيمته الفلسفية الجاذبة التي بُني عليها، ويتجه مع مرور الزمن للتنميط؟
يجيب عن هذا السؤال الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني تيودور أدورنو، فيقول: "هذا ما فعلته الرأسمالية بالفن، حوّلته من قيمة جمالية إلى مجرد حالة نمطية". لكن هل يمكن تعميم هذا الرأي على الصناعة البديلة؟ وهل نتغاضى عن أذرع الرأسمالية الممتدة بين صفوف بعض الفرق الموسيقية البديلة (إعلانات تجارية مبوبة)؟
كم هائل من الأعمال الموسيقية والغنائية، التجريبية منها والابتكارية، تظهرها لنا المنصات الرقمية. أفراد أو مجموعات وصفحات خاصة، ينشرون أعمالهم بزخم ونشاط كبيرين، كان ليضيع مجهودهم في الفضاء الرقمي لولا عمليات الحجر المنزلي التي، بشكل أو بآخر، أتاحت لهؤلاء فرصة لم يكن في الإمكان نيلها فيما قبل، أمام سطوة الأعمال والبرامج الفنية والمسابقات الغنائية وبرامج اكتشاف المواهب المسيسة والممولة.
هنا، نكون أمام مشهد جديد لا يختلف عن بدايات الفن البديل وتحوّله إلى حالة خاصة انبثقت من رحم المعاناة. بعد أن تمرّدت على السائد، وخلقت كيانًا خاصًا بها امتد إلى مختلف شرائح المجتمع واصطبغت في مرحلة ما بالثقافة الجماهيرية بالرغم من بعض السلبيات التي طاولت صفوفها. يشير أدورنو في مقالته "النقد الثقافي والمجتمع" إلى أن "الفن الناجح عليه أن يقدم بعض الحقائق التي يتحاشاها المجتمع". وعليه، فإن الدور الارتجالي القائم على التجربة والتفرّد بعيدًا عن حسابات الجهات الإنتاجية، خلق مساحة خاصة تدفع بالجماهير إلى تحمّل بعض المسؤولية الأساسية عن الثقافة التي تستهلكها. وهي مساحة حرجة لم يؤذن لها لتمرّ بسهولة أمام حسابات الكبار، ومثيرة للتساؤل حول ما إذا كانت هذه التجربة العريضة ستنفذ إلى كيان مستقل رديف للفن البديل؟
اقــرأ أيضاً
هكذا، تتحوّل الأزمة، وفق المفاهيم الاقتصادية، إلى سلع تخدم الوظيفة التبادلية بين المنتج والمستهلك. وعليه، تصبح الثقافة الجماهيرية بمفهومها الواسع أقرب إلى المستثمر منه إلى المستهلك الجامح الذي يقبل، ضمن قيود اعتبارية وأيديولوجية، الإذعان والخضوع بشكل مبرمج. بعد أن نجحت أدوات الإنتاج في خلق وعي زائف من خلال إلهاء الجمهور عن الواقع المزري للمجتمع الرأسمالي.
في المقابل، إن تجسيد الشباب لفنونهم ومواهبهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي لا يتوقف عند الترفيه بغية كسر العزلة الاجتماعية المفروضة عليه، بل تتعداها، بشكل انتقائي حر، إلى التعبير عن خذلان يطوق مساعيهم للنجاح، وللتمهيد من أجل الخروج من عباءة الإنتاج وماكيناته النافدة في شتى المجالات، رغم مساعي الأخيرة في استغلال أزمة الوباء بالدخول إلى الفضاء الرقمي (السبيل الوحيد) لاستمالة الجمهور وفرض خناق على الفئات العاملة ممن يشتغلون بالموسيقى والغناء من غير وجيه أو رقيب وممول.
لذا، إن الأخذ بالاعتبار، الفن البديل كمشروع مستقبلي متمدد، يحافظ على استقراره الأخلاقي نوعًا ما، وتقدم له الأزمة الحالية فرصة للرجوع إلى مكانته الأساسية كتيار مستقل لا تعبث به أدوات الإنتاج، مثلما كانت تفعل قبل انتشار الوباء، فإن هناك فرصة موازية حاليًا، لجيل ينعم بوافر الحظ، ليقدم موهبته وفنه بعيدًا عن ولاءات لا تستطيع فرضها قوى الإنتاج في الوقت الحالي.
إمكانية تحرر الفنون من قبضة الإنتاج والسوق الرأسمالية هي أمر مرهون بقدرة الأجيال على سلخ نفسها من قيود التبعية، وإعادة هيكلة الأدوار في العلاقة التبادلية بين المنتج والمستهلك، ما يسمح بإعادة تدوير النهج الثقافي الجماهيري وتحريره من الاستلاب، فيفسح المجال أمام طاقات شابة مفعمة بالحيوية والنضوج لتعبر عن نفسها وعن فنها.
تتضح هذه المعالم مع ما تشهده المنصات الرقمية، ووسائل التواصل الاجتماعي (باعتبارها الجهة الأكثر استفادة أمام قرارات الحجر المنزلي) من زخم أدائي لعروض فنية متنوعة ما بين موسيقى وغناء؛ إذ نرى أدوارًا مكثفة، سواء لفئات او أفراد ممن يمتلكون مواهب فنية دفعت بها قرارات الحجر إلى الواجهة بشكل أوسع مما كانت عليه قبل انتشار الفيروس، بعيدًا عن أي تمويل تجاري أو مؤسساتي أو حكومي، ووضعتهم في مواجهة شكلية، لا يمكن التنبؤ بمدى جدية استمرارها ومستقبلها في الوقت الحالي، مع الهيمنة الإنتاجية السائدة التي تشق الأنفس لضخ الأعمال الفنية في السوق الرقمي بعد تجميد حركة الاحتفالات والمبيعات.
هذه الفرضية تدعونا للعودة إلى نشأة الموسيقى البديلة، لنستشف بعض التأويلات الممكن مناقشتها لفهم الوضع الراهن. انتشرت الموسيقى البديلة كتوجّه كسر احتكار الرائج من الأعمال الموسيقية المسلّعة والمعدة للاستهلاك العمومي، وفرضت نفسها كفن متمرد على متطلبات المنتجين وموزعي الموسيقى المحددة بالانتشار وتحقيق الأرباح. وحافظت على مكانها داخل دائرة مناهضة التيار العام. لكن هناك نظرية تقول إن "البديل، في مرحلة لاحقة، يصبح سائدًا". فما الذي يدفع أي نوع أو تيار موسيقي جديد إلى أن يفقد قيمته الفلسفية الجاذبة التي بُني عليها، ويتجه مع مرور الزمن للتنميط؟
يجيب عن هذا السؤال الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني تيودور أدورنو، فيقول: "هذا ما فعلته الرأسمالية بالفن، حوّلته من قيمة جمالية إلى مجرد حالة نمطية". لكن هل يمكن تعميم هذا الرأي على الصناعة البديلة؟ وهل نتغاضى عن أذرع الرأسمالية الممتدة بين صفوف بعض الفرق الموسيقية البديلة (إعلانات تجارية مبوبة)؟
كم هائل من الأعمال الموسيقية والغنائية، التجريبية منها والابتكارية، تظهرها لنا المنصات الرقمية. أفراد أو مجموعات وصفحات خاصة، ينشرون أعمالهم بزخم ونشاط كبيرين، كان ليضيع مجهودهم في الفضاء الرقمي لولا عمليات الحجر المنزلي التي، بشكل أو بآخر، أتاحت لهؤلاء فرصة لم يكن في الإمكان نيلها فيما قبل، أمام سطوة الأعمال والبرامج الفنية والمسابقات الغنائية وبرامج اكتشاف المواهب المسيسة والممولة.
هنا، نكون أمام مشهد جديد لا يختلف عن بدايات الفن البديل وتحوّله إلى حالة خاصة انبثقت من رحم المعاناة. بعد أن تمرّدت على السائد، وخلقت كيانًا خاصًا بها امتد إلى مختلف شرائح المجتمع واصطبغت في مرحلة ما بالثقافة الجماهيرية بالرغم من بعض السلبيات التي طاولت صفوفها. يشير أدورنو في مقالته "النقد الثقافي والمجتمع" إلى أن "الفن الناجح عليه أن يقدم بعض الحقائق التي يتحاشاها المجتمع". وعليه، فإن الدور الارتجالي القائم على التجربة والتفرّد بعيدًا عن حسابات الجهات الإنتاجية، خلق مساحة خاصة تدفع بالجماهير إلى تحمّل بعض المسؤولية الأساسية عن الثقافة التي تستهلكها. وهي مساحة حرجة لم يؤذن لها لتمرّ بسهولة أمام حسابات الكبار، ومثيرة للتساؤل حول ما إذا كانت هذه التجربة العريضة ستنفذ إلى كيان مستقل رديف للفن البديل؟
لم تمر هذه الرؤية عند أدورنو مرور الكرام، إذ سبق له أن أشار إلى "طبيعة النظام الرأسمالي الذي يرى الإنسان سلعة كغيرها من السلع، حيث يجب على العقول أن تتشابه، لتسهل قيادتها، وتحويل القوى المعارضة إلى بنى استهلاكية". لذا، نجد أن الشلل الذي أصاب حركة الحياة على مختلف الأصعدة والميادين حول العالم جراء انتشار فيروس كورونا المستجد، لم يحد من وظيفة العجلة الإنتاجية وهيمنتها، رغم زعزعة الكيانات المسؤولة عن عمل السوق الرأسمالي الذي ينتهج من وقع الأزمات، بعد توليفها، مناورة أخلاقية، فيجعل من الخسارة تبدو فكرة واهنة أمام الصالح العام.
هكذا، تتحوّل الأزمة، وفق المفاهيم الاقتصادية، إلى سلع تخدم الوظيفة التبادلية بين المنتج والمستهلك. وعليه، تصبح الثقافة الجماهيرية بمفهومها الواسع أقرب إلى المستثمر منه إلى المستهلك الجامح الذي يقبل، ضمن قيود اعتبارية وأيديولوجية، الإذعان والخضوع بشكل مبرمج. بعد أن نجحت أدوات الإنتاج في خلق وعي زائف من خلال إلهاء الجمهور عن الواقع المزري للمجتمع الرأسمالي.
في المقابل، إن تجسيد الشباب لفنونهم ومواهبهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي لا يتوقف عند الترفيه بغية كسر العزلة الاجتماعية المفروضة عليه، بل تتعداها، بشكل انتقائي حر، إلى التعبير عن خذلان يطوق مساعيهم للنجاح، وللتمهيد من أجل الخروج من عباءة الإنتاج وماكيناته النافدة في شتى المجالات، رغم مساعي الأخيرة في استغلال أزمة الوباء بالدخول إلى الفضاء الرقمي (السبيل الوحيد) لاستمالة الجمهور وفرض خناق على الفئات العاملة ممن يشتغلون بالموسيقى والغناء من غير وجيه أو رقيب وممول.
لذا، إن الأخذ بالاعتبار، الفن البديل كمشروع مستقبلي متمدد، يحافظ على استقراره الأخلاقي نوعًا ما، وتقدم له الأزمة الحالية فرصة للرجوع إلى مكانته الأساسية كتيار مستقل لا تعبث به أدوات الإنتاج، مثلما كانت تفعل قبل انتشار الوباء، فإن هناك فرصة موازية حاليًا، لجيل ينعم بوافر الحظ، ليقدم موهبته وفنه بعيدًا عن ولاءات لا تستطيع فرضها قوى الإنتاج في الوقت الحالي.
إمكانية تحرر الفنون من قبضة الإنتاج والسوق الرأسمالية هي أمر مرهون بقدرة الأجيال على سلخ نفسها من قيود التبعية، وإعادة هيكلة الأدوار في العلاقة التبادلية بين المنتج والمستهلك، ما يسمح بإعادة تدوير النهج الثقافي الجماهيري وتحريره من الاستلاب، فيفسح المجال أمام طاقات شابة مفعمة بالحيوية والنضوج لتعبر عن نفسها وعن فنها.