مسيرة تأخرت 30 عاماً

20 سبتمبر 2018
مع عمر الشريف في "لورنس العرب" (فيسبوك)
+ الخط -
في بداية الأربعينيات، كان حلم "الشاب" جميل راتب أن يكون ممثلاً سينمائياً؛ أعجبه كثيراً ذلك السحر الخارج من الأفلام التي شاهدها خلال طفولته ومراهقته، وكاريزما أساطير هوليوود مثل كاري غرانت وجيمس ستيوارت وكلارك غيبل، ويريد أن يصبح مثلهم، بل إنه شعر بأن الأمر قريب للغاية حينما حصل في الفترة نفسها على جائزة أفضل ممثل على مستوى المدارس في مصر بعد أدائه أدوارا مسرحية خلال المرحلة الثانوية، ولكن أتت العقبة الكبرى؛ عائلته الثرية التي رفضت أن يكون ابنها مجرد "مشخصاتي" في الأفلام، ودفعته لأن يذهب ليدرس الحقوق في فرنسا. تلك اللحظة ربما عطلت مسيرة جميل راتب كثيراً، لثلاثين عاماً ربما. 
صحيح أن حب السينما والأفلام والتمثيل لم يتوقف في قلبه لحظة، وصحيح أنه حين ذهب إلى فرنسا لم يدرس الحقوق، وانخرط في التمثيل بين المسرح والسينما لوقت طويل، ما أهّله بعد ذلك للمشاركة في بعض الأفلام الأميركية والإنكليزية بأدوار صغيرة؛ وأهمها على الإطلاق دوره في "لورانس العرب" مع المخرج ديفيد لين وأمام صديقه عمر الشريف عام 1962. كل هذا صحيح فعلاً، ولكن ما تعطل هو مسيرته مع السينما المصرية، تلك التي بدأت بعد أوانها بثلاثة عقود؛ وبدلاً من أن يكون ممثلاً شاباً يخطو مع الصناعة التي تزدهر في مصر منذ عام 1946 (وهو في العشرين من عمره) فقد بدأ فعلاً عام 1975، حين عاد من فرنسا، مقرراً الاستقرار في مصر، وهو في الخمسين من عمره.
لحسن الحظ، لم تتأخر أبداً فرصة بروزه، فقد اختاره المخرج كمال الشيخ لدور رئيسي في فيلم "على من نطلق الرصاص" عام 1975 أمام سعاد حسني ومحمود ياسين، وبدأت الأدوار بعدها، تحديداً في أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات، تستغل ملامحه الوسيمة والأرستقراطية في حصره بدور العجوز القوي الشرير؛ مثل دور "أفندينا" في "شفيقة ومتولي" (1978)، أو "الشرنوبي" في "حب في الزنزانة" (1982)، "سليم البهظ" في "الكيف" (1985) أو "نبيه بيه" في "البداية" (1986)، وغيرها. ولكن الملفت فعلاً هو قدرة راتب على التنوع في أداء تلك الأدوار؛ ليس شريراً ذا نمط واحد، ولكنه يتلون مع الشخصية ويبحث في خلفيتها وتاريخها كما تعلم في المسرح الفرنسي.
علاقة المصريين تغيرت بشكل كلي مع جميل راتب عام 1988، حين قام ببطولة مسلسل "الراية البيضا"، مع الكاتب أسامة أنور عكاشة، والمخرج محمد فاضل، مؤدياً دور "مفيد أبو الغار"، رجل الثقافة والسفير السابق الذي يدخل في صراع طوال العمل مع "فضة المعداوي" (سناء جميل في أجمل أدوارها)، إذ تحاول الاستيلاء على القصر الأثري الذي يعيش فيه، ويناضل "أبو الغار" للحفاظ عليه بكل ما يحمله من قيم. تعلق الجمهور بالطرفين، وأصبح "راتب" وجهاً مألوفاً ومفضلاً وقريباً للناس.



يظهر ذلك الأثر في تغير نوعية أدواره منذ تلك اللحظة، فبدلاً من "الشرير" المتلوّن صارت أدواره أكثر لطفاً وقرباً، وكذلك ميله للتلفزيون أكثر من السينما، ربما لأن صناعة الأفلام كانت مترنحة عموماً في التسعينيات، فقدم أدواراً جميلة في مسلسلات "ضمير أبلة حكمت" (1991)، "زيزينيا" (1997)، وكلاهما مع عكاشة، ودوره الأشهر "أبو الفضل" والد "ونيس" في أجزاء مسلسل "يوميات ونيس" الخمسة على مدى عقد التسعينيات. أما سينمائياً، فكان الأثر الأكبر هو دوره اللافت في فيلم "عفاريت الأسفلت" (1996)، حين اختاره المخرج أسامة فوزي في شخصية أبعد ما تكون عن سماته الشكلية وأدواره السابقة، بدور "الأسطى عبد الله"، سائق الميكروباص الذي لا يخاف الموت ويعيش عابثاً ومحباً للحياة. ورغم أن الفيلم أقل شهرة من أدوار كثيرة لـ"راتب" إلا أنه قد يكون دوره الأجمل طوال مسيرته.
مع سنين الألفية كان راتب قد وصل إلى الثمانين من عمره، صار أكثر مرضاً وتعباً، لم يعد قادراً على أداء أدوار معقدة، وإن ظل محتفظاً بملامح ودودة وابتسامة وروح يرتبط بها الجمهور، تظهر كل حين وآخر في "الساحر" (2001)، أو "الأولة في الغرام" (2007)، أو ثلاثة أجزاء جديدة من "يوميات ونيس"، وصولاً إلى حضوره الأخير في مسلسل "بالحجم العائلي" أمام يحيى الفخراني (2018)، في دور أخير أقرب ما يكون إليه في تلك اللحظة؛ رجل عجوز وهَرم وحكيم في التسعين من عمره، عاش حياة صاخبة وجميلة، وأحبه الجميع.
المساهمون