الجامع الأموي... رموز الإمبراطورية والفردوس

26 يناير 2019
الجامع الأموي أحد الرموز الكبرى للدولة الأموية (Getty)
+ الخط -
في عام 715 ميلادية، وبعد تسع سنوات من العمل، أبصر الجامع الأموي، في عاصمة الأمويين دمشق، النور. بدت مساحاته المعمارية الواسعة، وجدرانه المكسوة بالفسيفساء، والرخام وغيرها من المواد الثمينة، أعجوبة تتحدى الزمن.

القيم الجمالية لهذه التحفة المعمارية، وكيف نُظر إليها في القرن الثامن الميلادي، كان لب المحاضرة التي قدمها ألان جورج، أستاذ آي. إم. باي للهندسة المعمارية الإسلامية والفن الإسلامي في جامعة أكسفورد، كلية ولفسون، في محاضرته، مساء الأربعاء، بمتحف الفن الإسلامي في الدوحة.

كيف نظر إلى هذا المعلم ضمن التاريخ السياسي الذي كتبته الإمبراطورية في ذروة مجدها، في عهد الوليد بن عبد الملك، حيث كانت من حدود الصين إلى الأندلس، وما دلالاته المعمارية الإسلامية والمؤثرات الثقافية التي اجتمعت في هذا البناء؟

علماً بأن هذا المكان توالت عليه معالم معمارية هامة، فقد كان معبد الإله الآرامي حدد، وفي العصر الروماني أصبح معبد جوبيتر، ثم كنيسة يوحنا المعمدان، وأصبح جامع الدولة الأموية أبرز رموز حواضرها، مع قبة الصخرة في القدس والمسجد الحرام في مكة والمسجد النبوي في المدينة المنورة.

تسع سنوات من البناء والزخرفة لافتتاح هذا الصرح الدمشقي (Getty)

يبني المحاضر قراءته لهذا الصرح على أمرين، سماوي وأرضي. في الأول، استلهام للفردوس الذي ورد في القرآن، والثاني تثبيت رمز حضاري في مركز العالم الذي كانت تمثله دمشق.

ويذهب ألن جورج إلى أن الفسيفساء التي من ناحية الكم والقوة الفنية غير مسبوقة في المنطقة، مثلت الصور الدينية المرادة المستلهمة من الصور الأثيرية للفردوس السماوي، حيث تصور إحدى أبرز الجداريات النهر والأشجار الباسقة والقصور والجواهر والأحجار الكريمة التي ترمز إلى ضوء السماء، مشيراً إلى مصادر عربية عديدة تحدثت عن انعكاس هذه الصورة السماوية في الجانب الأيديولوجي الديني للعمارة.

وتطرق الباحث إلى النمط المعماري المختلف الذي اعتمده الأمويون، ليكون مغايراً للأسلوب البيزنطي، لافتاً إلى أن المشرفين المسلمين لم يتركوا الفنيين المهرة والعمال من المسيحيين ينجزون أشغال الجامع على هواهم، بل ضبطت، على مدار تسع سنوات، لتمثل الرؤية الدينية والدنيوية للدولة الأموية.

ووفقاً له، فإن عمارة المسجد وفّرت رؤية مفتوحة لعيون الناس في أي جهة كانوا فيها، لتكون كل مفردات الأبهة والسلطان ماثلة للعيان، ومرفوعة على أعمدة رخام عالية، وفي الليل تضاء كل الأرجاء بالشموع. أما الصور بأشجارها الضخمة الفردوسية فكان عليها أن تخلو من صور الكائنات الحية، الأمر الذي يخالف الصور في الكنائس.

ألان جورج: نوازع إمبراطورية ودينية في الجامع (العربي الجديد)

ويشير المحاضر إلى كتاب "أخبار المدينة" لابن زَبَالة، وهو أقدم مرجع يرد فيه تأريخ للمسجد النبوي الذي توسعت مساحته وزخرفت في عهد الوليد بن عبد الملك، على غرار زخارف دمشق، وفيه يورد "أخبار المدينة" بأن الفنيين والعمال عملوا تحت تعليمات، بوجوب أن تصور الزخارف أشجار الفردوس وقصوره.

ويستعين جورج بمراجع عربية تصف أي نوع من العمارة كان على الناس في القرن الثامن أن يطالعوها، وقد صرف عليها الكثير من المال، واحتفل بها الشعراء الكبار مثل جرير والفرزدق والنابغة الشيباني، والأخير يفصّل في قصيدته معالم الجامع:

يكاد يعشي بصير القوم زبرجه/ حتى كأن سواد العين مطروف

وفضة تعجب الرائين بهجتها/ كريمها فوق أعلاهن معطوف

وقبة لا تكاد الطير تبلغها/ أعلى محاريبها بالساج مسقوف

لها مصابيح فيها الزيت من ذهبٍ/ يضيء من نورها لبنان والسيف

ويلاحظ المحاضر كيف تناول المؤرخون والرحالة هذه العمارة بكثير من الإعجاب، ومنهم المقدسي الذي تحدث في كتابه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" عن التكاليف الباهظة للبناء والتي بلغت خراج الشام سبع سنين، مع ثماني عشرة سفينة ذهبا وفضة أقلعت من قبرص، سوى ما أهدي من ملك الروم من الآلات والفسيفساء، فكان -كما يصف- "على غاية الحسن والدقة ولطافة الصنعة" بما فيه من الرخام المجزّع والأبيض والفسيفساء المرصعة، والأروقة المتعالية، والجداريات التي "قل شجرة أو بلد مذكور إلا وقد مثّل" عليها.

تصميم معماري مفتوح يظهر معالم الجامع من كل الزوايا (Getty)

ويخلص جورج إلى أن بناء قبة الصخرة والمسجد الكبير في دمشق كان خلال السنوات الحاسمة التي شهدت ترسيخ أسس الخلافة الأموية وتوسعها، والسعي إلى ترسيخ مكانة الدين الإسلامي، ونقل سلطة النظام الجديد الناشئ إلى خيال العامة عبر عمارة تذكارية تشتبك فيها الرموز الفردوسية والإمبراطورية.

المساهمون