أحمد الرفاعي: أنا لا مارد ولا عصفور

03 ابريل 2019
لم يستطع دراسة الغناء وتورّط في الطبّ (العربي الجديد)
+ الخط -
في أوائل عام 2012، التحق أحمد الرفاعي بفرقة سماع للإنشاد الديني، وساهم بنفس السنة في تأسيس فرقة "الأوله بلدي" مع مجموعة من الشباب المتحمسين. ومن خلال الفرقتين، اشترك الرفاعي في عشرات الفعاليات الفنية، لتستضيفه مع فرقته "الأوله بلدي" غالبية الفضائيات المصرية ببرامجها المختلفة. كانت مصر فرحة وكان أحمد وزملاؤه فرحتها المغناة. كانت الوعود مبذولة بلا حساب، ونصيب أحمد منها أنه أخيراً سيفعل ما يحب، بعد أن لم يكن يحب ما يفعل.
يبلغ أحمد الرفاعي اليوم 30 عاماً. مغنٍّ موهوب وطالب في السنة السادسة طب الأزهر. حاله كحال كثير من الشباب، تستنزف موهبته تعقيدات لا حيلة له معها. بعضها يخص ثقافة تثبط بأكثر مما تدفع للأمام، وبعضها الآخر يتعلق بواقع سياسي نكص على عقبيه وأسقط كل الوعود المبذولة.
في قرية أويش الحجر في ريف المنصورة كانت نشأته. وكأترابه، حفظ القرآن في سنّ صغيرة (أربع سنوات وأتمه في العاشرة). أرسلته أسرته المتدينة إلى المعهد الأزهري، فكان قارئ القرآن في الإذاعة المدرسية، يقلّد مشايخ الإذاعة الكبار (الحصري والمنشاوي وعبد الباسط والبنا ومصطفى إسماعيل)، الذين تعوّد على الاستماع إليهم عبر محطة القرآن الكريم، عبر راديو جدته العتيق؛ فلم يكن مذياعها يستقبل إذاعة أخرى.
ومن خلال الساعة الكلثومية اليومية في إذاعة الأغاني التي كان والده يحرص عليها، تعرف إلى الطرب الكلثومي وأحبه، لكنه مع ذلك لم يفلت من شباك تحريم الموسيقى والغناء، الذي ألقته الجماعات الدينية على أهالي القرية المتدينة المعروفة بتصديرها الكثير من حفظة القرآن وقرّائه. أظلّت شبهة التحريم تلك عقله حتى بعدما انتقل إلى القاهرة لدراسة الطبّ، إثر حصوله على مجموع مرتفع في الثانوية العامة.
رغم أن أحداً لم يمارس عليه أي ضغوط لاختيار كلية الطبّ، لكن لم تكن الثقافة المجتمعية وما تشبع تفكيره به من حرمة الغناء والموسيقى ليساعده في أن يتجه إلى مسار أقرب لميوله وموهبته، فالغناء حتى بعد تخطي فتاوى حرمته ليس مجالاً جدياً للدراسة والعمل، وفي أحسن الأحوال لا يتعدى حاجز الهواية، وهو الإطار الذي اتفق عليه أحمد مع أسرته عندما جاءته الفرصة لأن يلبي رغبته في الغناء، وينضم إلى إحدى فرق الإنشاد الديني.

يتذكر أحمد المرة الأولى التي أمسك فيها بأحد الأعواد بعد انتقاله إلى القاهرة بسنوات، ليقلبه بين يديه وينظر داخله. كان يظن أن قصعته تحوي آلات دقيقة ومعقدة تصنع النغم، فلا بد أنّ دعاوى التحريم التي ترددت على مسامعه في عشرات بل مئات الخطب والدروس كانت تستهدف آلة أكثر تعقيداً من هذا الصندوق الفارغ. يضحك أحمد من سذاجة الفكرة، ومن الفتاوى التي شوشت تفكيره لفترة من الزمن.
جاءت انطلاقة الرفاعي لمطاردة حلمه في الغناء تالية لـ 25 يناير. كانت فتوى الثورة المحققة أنه على "كل واحد يدرس الحاجة اللي بيحبها، ويعمل اللي هو عايزه، ويشتغل الشغلانة اللي بيحبها". طموح استحقه الرفاعي، إذ كان فاعلاً في الحراك الثوري، وساهم في النشاط السياسي قبل الثورة، فاشترك في وقفات خالد سعيد.
التحق أحمد بفرقة سماع للإنشاد الديني بعدما سبقه إليها أخوه الأكبر هشام، الذي اشترك معه في الاهتمام بالفن وفي دراسة الطب أيضاً، ومن خلال "سماع" تعرف الأخوان إلى الشيخ علاء الدين إبراهيم، ليؤسسا معه فرقة "الأوله بلدي" المعنية بتراث الشيخ إمام.
في تلك الفترة، انتعش سوق الفرق الغنائية، وخصوصاً التي تقدم اللون الثوري أو الوطني، مثل فرقة "الأوله بلدي". امتدت حفلات الأخيرة على طول البلاد وعرضها، وحلّت ضيفاً خفيفاً على مختلف برامج الفضائيات. في هذا التوقيت، فكر أحمد أن يحول مسار دراسته إلى الموسيقى، لكن الأسرة عارضته، وإن لم تمانع أن يمارس هوايته في الغناء، لكن إلى جانب دراسته للطب.
التردد لم يكن من نصيب أحمد فقط، بل سقط في حباله وطن بأكمله حتى ارتدت الأوضاع إلى أسوأ مما كانت عليه. سُدت فرجة الأمنيات، وانتُزعت بعنف عصا الفاعلية من أيدي الناس بعدما تصوروا أنهم امتلكوها للأبد؛ فعفت أنفسهم جميع ما كان له قيمة، وتحول الإقبال على كل ما هو جادّ إلى إدبار عنه.
كثير من الفرق الغنائية عجزت عن الاستمرار، وخصوصاً بعد انحسار المدّ الثوري، وانصراف الإعلام بالأمر المباشر إلى ثكناته، لتجابه فرق مثل "الأوله" تقدم لوناً ثورياً ووطنياً تضييقاً، وملاحقة أمنية، واكتفى الناس بما يقدم إليهم عبر الإعلام والسوشيال ميديا كـ المهرجانات، أو "الفرقعات الغنائية" بتعبير الرفاعي.
هذه الأجواء لم تدفع الفنان الشاب إلى اليأس، بل تتابعت محاولاته، فكانت له تجربة مع عدد من أصدقائه لإنشاء فرقة موسيقية جديدة في أوائل 2018، وواظبوا على إجراء بروفات لمدة ثلاثة أشهر، لكن الأمر توقف عند هذا الحدّ بسبب العامل المادّي، إلى جانب الفتور الذي شعروا به في الجوّ العام. وقبل هذا التاريخ، في 2017 لم يمانع عندما واتته الفرصة للاشتراك مع عدد من الموسيقيين الإنكليز بحفل أقيم في وسط البلد، قدم فيه شكلاً فريداً امتزجت فيه الموسيقى الكلاسيكية الغربية بالغناء الشرقي، كما ساهم بعدد من المسرحيات الغنائية.

اليوم لم يعد أحمد ليأخذ شيئاً بجدية، لا الدراسة ولا الغناء ولا الأحداث السياسية، التي كان يوماً مهتماً بها ومنغمساً في غمارها. ما زال عضواً في سماع، فرقة الإنشاد الديني التي تتلقى دعماً حكومياً، ولولاه لما بقيت إلى اليوم، وإن كان الدعم، كما يوضح الرفاعي، آخذاً في التراجع، وما برح طالباً بكلية الطبّ يتردد عليها بالقصور الذاتي، وما فتئ مقبلاً على أي فرصة تصادفه لتطوير موهبته، لكن المسيطر على تفكيره حالياً، مثله مثل غالبية الشباب المصري، أمنية وحيدة: "اللهم هجرة".
المساهمون