الموسيقى في الفلسفة... وإلّا كانت الحياة مجرّد غلطة

06 يناير 2019
توحّد الموسيقى الصفات: يمكنها أن تمجدنا، أو ترهّبنا (Getty)
+ الخط -
قديماً، حدّد الفلاسفة أربعة علوم تلزم أي محب للحكمة حتى تصير لديه رؤية للكون، للحياة، للإنسان، وتمثلت تلك العلوم في الفلك والحساب والهندسة، إلى جانب الموسيقى التي اختصها الفلاسفة بعلاقة وطيدة، منذ الإغريق حتى اليوم.

أما عن السبب، فربما لأن الموسيقى جمعت إليها العلوم الثلاثة الأخرى؛ فهي تقسيم مدروس للزمن (أي لحركة الكون) ولتحوله إلى إيقاع. هذه الحركة (حركة القمر تحديداً) تؤثر في الحالة المزاجية للفرد، من خلال ما تحدثه من تغيير في سوائل الجسم، كما أن الحساب ضروري لدراسة التقسيمات الإيقاعية. وبتحليل العلاقات بين الإيقاعات والجمل الموسيقية، نجدها أشبه ما تكون بهندسة المعمار. لهذا، وصف غوته العمارة بأنها موسيقى جامدة.

هذا عن سر العلاقة الخاصة التي جمعت بين أهل الفلسفة والموسيقى، ولا تقل تفاصيل الارتباط بينهما حميمية وعمقاً، ويمكن أن نتتبعها لدى فلاسفة كثر على اختلاف عصورهم ومذاهبهم الفلسفية، منذ فيثاغورس، وحتى فلاسفة العصر الحديث.


موسيقى الأفلاك
تقول الحكاية إن فيثاغورس كان يسير في السوق، وتناهى إلى مسامعه طرق أحد الحدادين على سندان بمطرقتين مختلفتين في الوزن، فاستنتج أن النغمات تتوقف على النسب العددية، والدلالة هنا هي أن الموسيقى كانت حاضرة طوال الوقت في عقل ووجدان الفيلسوف اليوناني، ليس هو فقط، بل معظم فلاسفة الإغريق الكبار؛ فأفلاطون جعل الموسيقى شرطاً للشحن الوجداني المقرر أن يخضع له الحراس في مدينته الفاضلة، وقدمها أرسطو على بقية الفنون الأخرى، وبلغت أهمية الموسيقى لدى سقراط، من قبلهما، حداً جعله يربط "ظهور أساليب غريبة في الموسيقى" بـ"وصول السفلة إلى الحكم على المدى البعيد".

أما فيثاغورس، فكان هو من قعّد القواعد للموسيقى، واستعمل اكتشافاته بها في التأصيل لنظريته عن حركة الأجرام السماوية، حيث زعم أن جميع الأجسام في الفضاء تصدر عنها أصوات، وتعود درجة ارتفاع كل منها إلى حجم الجسم وسرعته، ومن هذه الأصوات أو النغمات تتكون "موسيقى الأفلاك" التي لا يستطيع الإنسان سماعها، لأنه لكي يسمعها لا بد أن يسبقها أو يتبعها سكون، في حين أن النغم الكوني نغمٌ دائم لا ينقطع.


علامة الفرح
يعد الكندي، "فيلسوف العرب"، أول من وضع قواعد للموسيقى في العالم الإسلامي، وأول من دوّنها بالحروف الأبجدية، وابتكر سلّماً موسيقياً من اثنتي عشرة نغمة، كما اقترح إضافة وتر خامس للعود. وعى الكندي في زمنه ما يغيب عن كثيرين اليوم؛ فسجل أن للطفولة ألحانها وللشباب ألحانه، كما للشيخوخة ألحانها، وأن هناك ألحاناً للصباح، وأخرى للمساء، ومثلها للصيف والشتاء، وقسّم الموسيقى، بحسب تأثيرها في النفس: الطربي واللهوي والتلذذي والتنعمي.

ولا تخلو رؤية فيلسوف العرب للموسيقى من طرافة؛ إذ رأى أن الألحان تساعد على عملية الهضم، وأن "نغمات الزير مناسبة لإيقاع الماخوري، وهما مقويان للمرار الأصفر، محركان له، مسكنان للبلغم مطفئان له. ونغمات المثنى مناسبة للثقيل الأول والثاني، وهي مقوية للدم، محركة له، مسكنة للسوداء".

انتبه الكندي مبكراً إلى ما تحدثه الموسيقى من أثر في نفس الحيوان، لا الإنسان فقط؛ فسطر أن "الدلافين والتماسيح إذا سمعت الزمر وصوت البوق فإنها تطرب وتخرج إلى الماء، والخيول والغزلان تلذها أصوات الأوتار، والطواويس عندما تسمع الألحان تنتشر أجنحتها وتختال علامة الفرح، والطيور عامة تعجبها الأصوات الحنونة، فتقف مصغية"، وقدم للموسيقى خمسة عشر مؤلفاً لم يصل إلينا منها غير خمسة فقط.



أن نرتعد
كان نيتشه لا يزال طفلاً عندما أتقن العزف على البيانو، ولحن مقطوعتين موسيقتين أهداهما إلى والدته، واستمر هذا التعلق المبكر ملازماً له طوال حياته، حتى في تلك السنوات الأخيرة التي فقد فيها عقله، لكنه لم يقفد شغفه بالموسيقى.

كانت حاضرة في مؤلفه الأول كعالم فيلولوجي: مولد التراجيديا من روح الموسيقى، وتطلع إلى ما هو أبعد، فتابع محاولاته في مجال التأليف الموسيقي، وعرض إحداها على ملهمه لفترة هامة من حياته، الموسيقار فاغنر، الذي تلطف معه في إخباره أنها لم تكن جيدة. ورغم عدم نجاحه كموسيقي، إلا أن نيتشه اعتبر أن جميع أعماله الفكرية والفلسفية هي شكل من أشكال الموسيقى التي "لن تروق إلا لمن لهم آذان جديدة للسمع"، واعتبر أن "الحياة من دون موسيقى ستكون غلطة".

رأى نيتشه أن الموسيقى "توحّد كل الصفات: يمكنها أن تمجدنا، أو تحرّرنا، أو ترهّبنا، أو تكسر أكثر القلوب قسوة؛ مع أرق نغماتها الحزينة. لكن مهمتها الأساسية هي أن تقود أفكارنا إلى أشياء أسمى، أن نرتقي، بل أن نرتعد".

هذا الوله والاحتفاء لم يتبدل مع اتخاذ الموسيقى مكانها بين خيبات نيتشه الكثيرة، فظل على عهده حتى بعدما تدهورت حالته العقلية، حيث يذكر بعض من تناول سيرته أنه داوم، وهو في هذه الحال، على الذهاب إلى أحد مطاعم برلين بعد خلوه من الزبائن ليعزف على البيانو مدة ساعتين، كانت تستكين فيهما نفسه المضطربة البائسة.


شيء من خارج العالم
"لم تظفر الموسيقى من قبل ـ بل ولا من بعد ـ بمن استطاع أن يكشف عن سرها الميتافيزيقي كما فعل شوبنهاور". هذا ما دوّنه المفكّر المصري عبد الرحمن بدوي عن شوبنهاور في ما كتبه عنه، وشاركه كثيرون الحماسة نفسها، معترفين بما لما لشوبنهاور من فضل على الموسيقى والموسيقيين، ومنهم مواطنه فاغنر، الذي كان دائم الوصف لشوبنهاور بأنه "هدية السماء" له، مستلهما كتاباته في سيمفونياته.

ميز شوبنهاور الموسيقى عن بقية الفنون، مقراً بسموها، وجعلها السبيل الوحيد للخلاص من سيطرة "الإرادة"، الفكرة الرئيسية التي هيمنت على فلسفته، ورأى أن جميع ظواهر الكون خاضعة لها، بما فيها وجودنا كبشر، وأن فرصتنا الوحيدة للتحرر من سطوة هذه "الإرادة" لن تكون إلا عبر الفن، وبالأخص الموسيقى، التي اعتبرها الفن في أبهى صوره.

أما لماذا عد شوبنهاور الموسيقى أرقى الفنون وأعلاها مرتبة؟ لأنها لا ترتبط بأي من صور الكائنات الموجودة في العالم، وإلى هذا التجرد يرجع تفوقها، ما يجعلها أكثر تعبيراً عن جوهر الوجود بالمقارنة بأي فن من الفنون.

وضعت الفلسفة، على يد فيثاغورس، للموسيقى أسسها كعلم رياضي منطقي يراعي النسب وينشد الانسجام، وكان على الموسيقى منذ ولادتها تلك أن تحمل على كاهلها أماني وتطلعات الفلسفة في أن تحيط بالكون، وأن تحرر الإنسان من كافة القيود الوجودية، وأن تمنحه السعادة والسكينة، وأن تحرره من طغيان "الإرادة" التي يخضع لها الوجود بأكمله، فهل حققت ذلك؟

قد تختلف الإجابة، لكن قطعاً لن يعارض أحد ما أثبته شوبنهاور للموسيقى من أنها فن مستقل "يبلغ غاياته بوسائل خاصة به تماماً"، وإن تفترق الطرق بنا بعد ذلك عندما يتابع رأيه بأنها تصل إلى ذروة ألقها عندما تخلو من الألفاظ والمناظر والأفعال، وأنها "لو اتحدت بالكلمات أكثر مما ينبغي لكانت بذلك تحاول أن تتكلم بلغة غير لغتها"، فذائقتنا الشرقية المعتادة على سماع الموسيقى بصحبة الكلمات من خلال الأغاني، ربما سجلت اعتراضاً على رأي شوبنهاور، رغم ذلك لن يمنعنا الاختلاف من أن نستمتع جميعاً بالموسيقى عندما نستمع إليها.

المساهمون