الغناء الديني اليمني: إنشادٌ من أعالي الجبال

17 مايو 2020
التزمت بعض المناطق بعدم إدخال الآلات الإيقاعية للإنشاد (Getty)
+ الخط -
ارتبط الموشح الديني في اليمن بعادات اجتماعية متعلّقة بطقوس كثيرة تُمارس في حالات الزواج، أو الموت. غير أنها كانت في الريف اليمني ملمحاً طقوسياً للسمر في ليالي رمضان. عادات اجتماعية كثيرة تغيرت، كما أن التلفاز طغى كمسرح مناسباتي للمسلسلات الموسمية، ولكثرتها تصيب المرء بالتشوش. يتكئ الموشح الديني في اليمن على موروث يتقاطع فيه مع أساليب الغناء الأخرى ولا تقل عنه تنوعاً.

تشكل الغناء الديني في اليمن في سياقات مستقلة عن بعضها، بل أيضاً أخذ بعداً أيديولوجياً مختلفاً. ففي صنعاء، اتخذ نسيجاً ابتهالياً يتحيز للأشكال اللحنية المُرسلة، فلم يكن الغناء الديني هناك مرتبطاً بالتصوف كما هو في حضرموت وتهامة ومناطق أخرى.

اللافت في الغناء الديني اليمني أنه استوعب أول ملامح تجديدية حقيقية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتحديداً مع جابر أحمد رزق الذي رحل عام 1905. ومسيرته تضعنا أمام جانب مهم في الموسيقى اليمنية، إذ تمتع الغناء الديني بجرأة أكبر في كسر التقاليد مقارنة بالغناء الغزلي.

ولد جابر رزق في قرية القابل القريبة من صنعاء، وأصبح موظفاً لدى الأتراك، ليتم تعيينه في الحديدة. ووجد هناك ملاذاً له من التشدد الديني في محيطه، الذي استهجن فيه عزفه آلة القنبوس (تشبه العود). وإضافة إلى صياغته الأشعار الدينية، وضع ألحاناً شديدة العذوبة في نسيجها اللحني، مع لمحات مبتكرة، خصوصاً في تغيير البنية الإيقاعية داخل اللحن كما في "يا خالق الخلق"، وأيضاً "منبت الأشجار".

استخدم في "يا خالق الخلق" إيقاعاً عربياً شائعاً هو المصمودي الكبير، وربما تعرف إليه خلال عمله مع الأتراك واحتكاكه بالموسيقى العسكرية التركية أو العرب الذين عملوا معهم. لا يقتصر إنجازه على الجانب الإيقاعي، بل في النسيج اللحني العام، إلى حد جعله يتخذ أسلوباً تعبيرياً في صياغة الجملة اللحنية كما في "دع ما سوى الله"، بحيث يقفز أربع درجات نغمية. وربما كان هذا الحس حاضراً بصورة ما في الغناء الديني اليمني التقليدي، لما يحمله من دلالات في المعاني الدينية، على عكس الغناء الدنيوي الذي كانت غايته لحنية بدرجة أولى.

على خلاف المناطق الأخرى، لم تحتضن الصوفية الغناء الديني، إنما ولد في كنف أسر عزفت عن استخدام الموسيقى، وهو ما جعلها آمنة من الاضطهاد الديني. لكن رزق القادم من إحدى تلك الأسر، أصبح مستهجَناً حين عزف القنبوس، فشكلت الصوفية ملاذاً له. وربما ساهمت في ملمحه التجديدي، ما دفعه كذلك إلى إعطاء زخم إيقاعي في لحنه لم يكن معهوداً في الغناء الصنعاني.

شكل المتصوفة الحس الغنائي الديني في كثير من المناطق اليمنية، وتحديداً في حضرموت وتهامة والمرتفعات الجنوبية حتى عدن. بينما ظلت صنعاء استثناء، لتتخذ نسيجها اللحني الخاص، والغناء الديني فيها يبني صلات أوسع مع نظيره في الشام وربما مصر، لكنه أيضاً يتخذ أشكالاً مقامية مختلفة قريبة من النهاوند، كما في صنعاء على سبيل المثل، لم يتم توظيفها في الغناء التقليدي.

ويعود للدراويش والمتصوفة نشر الإنشاد الديني عبر القرى والمناطق البعيدة عن مراكز المدن، ليصبح ترديدها شكلاً طقوسياً يومياً في ليالي رمضان، التي يتخللها تعاطي القات. وهذا الأمر غاب عن المدن قبل أن ينقرض في الريف اليمني، ليصبح حصراً على المجالس الصوفية.
غير أن تلك السهرات لم تتبن المضمون الصوفي العام، واقتصر إنشادها على الصيغ البسيطة.

 وربما هذا البُعد نزع عن تلك الألحان حساً مبتكراً لولا ما تتمتع به من تراكيب إيقاعية تمنح النشوة الروحانية. يعود انتشار المدائح والإنشاد الديني ربما لفترة الحكم الأيوبي الذي رعى التصوف كبديل سني عن التشيع الفاطمي، وهو توجه تبنته الدولة الرسولية التي نشأت في اليمن على إثر الوجود الأيوبي.

هذا النمط الاحتفالي لم يقتصر على مجالس السمر الرمضانية في القرى، إنما كان المزارعون يستبدلون المهاجل الزراعية أثناء عملهم في النهار، بترديد ألحان دينية بسيطة. وفي صلاة التراويح، كان المصلون يطلقون دعوات للرسول أو صلوات ملحونة عند نهاية كل ركعتين. وبعد الانتهاء من الصلاة، يخرج المصلون من المسجد وهم يرددون مناجاة مُلحنة في صورة تعطي رمضان شكلاً طقوسياً أو احتفالياً بسيطاً.

هذا الموروث الغنائي يتخذ شكلاً مختلفاً بين منطقة وأخرى. ففي حضرموت، يلتقي مع الأشكال الفولكلورية مثل الدان والعُدة. وتعود للمتصوفة الحضارم أهمية في نشر هذا الغناء في مناطق واسعة في اليمن. غير أن "تريم" تروي إحدى أكثر الحكايات الملحمية للغناء الديني إلى حد جعلها تنظم احتفالاً سنوياً للإنشاد الديني يحظى بمشاركة عربية وإسلامية. لقد أتى الفنان أبوبكر سالم من هذا المناخ الصوفي، وهو أحد أهم الأصوات الغنائية اليمنية.

يتيح الغناء الصوفي شكلين، أحدهما أشبه بترنيمات مبتهلة وأخرى مسكونة بنمط إيقاعي مُبسط. وكما في الغناء الدنيوي، يمكن ملاحظة آثار آسيوية، وبالتحديد هندية، على الغناء الديني هناك. سيعود أبوبكر في كثير من أغانيه إلى جذور الغناء الصوفي الحضرمي، وأبرز تلك الألحان "عللاني" والمنسوبة شعراً للصوفي ابن عربي. أتاح هذا اللحن لـ أبوبكر مساحة واسعة لاستعراض صوته أكثر من أغانيه العاطفية، فالأخيرة تتطلب أيضاً حساً تجارياً بالنسبة للمغنيين، ولكن الغناء الديني يراهن بصورة أكبر على القدرة الصوتية.

إن نظرة عامة لخريطة الغناء الديني في اليمن، تجعلنا نشاهد رقعة التداخل بين الأشكال الغنائية الدينية، وموقع حضور صنعاء أو تهامة أو حضرموت أو لحج. وحيث شكل جابر رزق تواصلاً بين الغناء الصنعاني والتهامي، وبين الغناء الديني الزيدي والصوفي، سنجد، أيضاً، تواصلاً مع الغناء الشعبي لكل منطقة. والغناء الصوفي في تهامة امتد ليمس حيزاً من مرتفعات المناطق الوسطى ومراكز التصوف في تعز. غير أن أشكاله الغنائية الإيقاعية والرتم المستمر من دون تحولات ملحوظة أو مساحات ارتجالية، جعل البعض يقدم هذا اللون بمصاحبة الأورغ، مثل أغنية "يا ربنا يا ربنا". لكن تلك المناطق وحتى لحج وعدن قلما استقلت عن الغناء الشعبي، وأخذت مضامينه اللحنية إلا ما يكاد يكون إنشادياً.

في هذا السياق، سنرى الغناء الديني في صنعاء أكثر تشدداً إزاء الموسيقى، إلى حد لا تحضر فيه الآلات الإيقاعية. فأداء معظم الابتهالات الدينية الصنعانية يعتمد على الصوت من دون أن تصاحبه إيقاعات، هذا إذا استثنينا موشحات جابر رزق. ما يميز الغناء الديني، أيضاً، أهمية الصوت المؤدي لها، وفي أساليبها التي لا تحضر فيها الدروشة، تتطلب أصواتاً قوية ومقتدرة.

وهذا التطلب شكل مخزناً لاحتضان أصوات قوية. في صنعاء، شكل عبد الرحمن العمري بقدراته الصوتية العالية صوتاً مميزاً. وفي تسجيله لموشح جابر رزق "رب حسن المختم"، يستعرض تمكنه مع مساحات استعراضية وربما استحضر فيها مخزونه الخاص من التطريب العربي، إذ سنجد لمحات هناك. على أن الغناء الديني في اليمن مثله في العالم العربي يعتمد على الموروث، وربما يحاول مواكبة رتم الغناء الحديث. كما أن رمضان أصبح شكلاً طقوسياً في قنوات التلفاز، وحدثاً مناسباتياً لمسلسلاتها وبرامجها، وقليل من زخرفة موسيقية على مقام الحجاز تفصل بين الإعلانات.

دلالات
المساهمون