"نداء البرية" لكريس ساندرز... مزيج الجدّية والترفيه

14 يونيو 2020
فريق عمل "نداء البرية" (مات وينكيل ماير/ Getty)
+ الخط -
للممثل الأميركي هاريسون فورد (1942) مكانة كبيرة في السينما الأميركية، لا يُجاريه فيها إلاّ ممثلون مخضرمون، ممن تربّوا في كنف السينما الهوليوودية، وفتحوا لها آفاقاً واسعة، أداء وبحثاً عن لغة سينمائية صادقة ومؤثّرة في وجدان المتلقّي. بدأ فورد يكتسب هذه المكانة منذ فيلمه الشهير "الشاهد"، الذي ترشّح بفضله لجائزة "أوسكار" أفضل ممثل للمرة الأولى، ثم توالت أعماله الفنية، كممثل وكمنتج لبعض الأفلام، التي جعلت منه أعلى الممثلين دخلاً في العالم من ناحية شبّاك التذاكر في أميركا، بسبب طبيعة الأفلام التي يُشارك فيها وينتجها. فأعماله لم تخرج عن المزج بين الترفيه والجدية والحركة، ولهذا الأمر علاقة أساساً بأبعاد تجارية أكثر منها جمالية وسينمائية، كما في فيلمه الجديد "نداء البرية" (2020)، الذي أخرجه الأميركي كريس ساندرز (1962)، والمُقتبس عن رواية بالعنوان نفسه للكاتب الأميركي جاك لندن.

في هذا الفيلم، يحرص ساندرز على "المزج" نفسه الذي اشتهر به بعض مخرجي هوليوود. فهو يركّز على ذكاء الحركة، وفتنة المغامرة، وجزالة النصّ، وحبكة القصّة، للتخلّص من الطابع الاستهلاكي المباشر، الذي ربما تُصنّف فيه أعماله. علماً أنّ مسألة مفهوم "الترفيه" لا تُشكّل مأزقاً في هوليوود، سواء له أو لمخرجين عالميين كبار، يعترفون بقول ذلك، لأنه يمثّل بنظرهم أحد أنواع الأفلام السينمائية الرائجة في تاريخ السينما الأميركية، التي تلقى نجاحاً باهراً، وتحقّق عائدات كبيرة في شبّاك التذاكر، تُضاهي أعمالاً سينمائية لكبار المخرجين.

يحكي "نداء البرية" قصّة كلب (باك) يعيش في منزل عائلة بورجوازية. تشاء الظروف أن يُسرَق ذات يوم، ويُباع إلى ساعي البريد لمساعدته. لكنّه يضطر بعد أيام إلى بيعه هو الآخر، بسبب اكتشاف تليغراف إلى شخص يدعى هال، يعمل باحثاً عن الذهب، فيظل لأسابيع طويلة يستغلّ الكلب المشاكس، حتى أنهك قوّته في ذلك. ثم يظهر جون، الذي يعيش وحيداً، والذي سيعمل على تحرير باك من الاستغلال والقهر، فيدخل الطرفان في علاقة تماهٍ وصداقة تقودهما إلى مغامرات كثيرة، تمتد إلى نهاية الفيلم، بأسلوب سينمائيّ تشويقي، عمل ساندرز من خلاله على وضع مفهوم الترفيه في مقدّمة الرؤية السينمائية، كمقابل لمفهوم الجدّية، مُتأثّراً بجماليّات الرسوم المُتحركة، خاصة أنّ "نداء البرّية" فيلمه الأول كمخرج أساسي، بعد فيلمه الكرتوني الأول "ليلو وستيتش"، الذي أخرجه مع الكندي دين ديبلوس.


يتجلّى هذا التأثير في شخصية الكلب الرقمي، الذي يعمل على إعطاء الفيلم بعض الحركية المُصطنعة، التي تُصنع في أفلام الـ"أنيمايشن"، بما تتميّز به من ترفيه مُفتعل وهَجين. في هذه الأفلام، يختفي جسد الممثل ويحلّ مكانه الصوت والمؤثّرات الإلكترونية وعناصر الـ"غرافيك"، فالكلب في الفيلم عنصر ترفيهي مُكمّل لجماليّات النصّ والموضوع وقوة أداء هاريسون فورد، ما يُصدِم المشاهدَ بمجموعة صور سينمائية بعيدة عن واقع القصّة، لأنّ غرض الترفيه واضح منذ البداية، وهو يتمحور حول شخصية الكلب، المُصطنعة والهشّة، إذ نجد أنفسنا أمام النسخة لا الأصل، وشَبَه الأشياء لا الأشياء، ما يجعل مفهوم الصورة السينمائية أشبه بالـ"سيمولاكر"، الذي هو في أساسه أقلّ قيمة من الصورة الأصل/ الحقيقة، وفيه تختفي هوية الممثل وبلاغة النصّ وموضوعية الأحداث وانسيابيتها.

هذا كلّه يجعل المُشاهد متشبّثاً بالأوهام عِوَضَ الحقائق، وبالـ"فانتاستيك" مقابل الوقائعي. هذا النمط من الصُوَر السينمائية تميّز به كريس ساندرز، الدخيل على السينما الجادّة المعنيّة بجماليّات الصورة وقوة الموضوع وموهبة الممثل، وبغيرها من المسائل السياسية والثقافية التي لا تقلّ أهميّة. أما عنصر الجدّية، فيتمثل في قوّة أداء هاريسون فورد، وهذا مألوف، وبمدى تفاعله مع النصّ والمَشاهد اليومية للتصوير. هذه الشخصية غريبة ومُتفرّدة، نحتت مسارها في أفلام الحركة. في الفيلم، يتبدّى جيداً نجاح فورد في تشرب السيناريو وقوّة الأداء أمام كلب رقمي، خاصة أنّ الأمر يزداد صعوبة لديه، إذْ يجد نفسه وحيداً أكثر من مرة في مَشاهد مختلفة. وهذا لا يترك انطباعاً قوياً عن مدى نجاحه في تشخيص الدور، مقارنة بأدائه أمام ممثل حقيقيّ.

مع ذلك، لم يُحقِّق "نداء البرّية" ما كان مُنتظراً منه على صعيد شباك التذاكر، بسبب جائحة "كورونا"، وما تسبّبت فيه من إغلاق لدور العرض في العالم (لم يتجاوز عرضه أسابيع قليلة). هذا الأمر بدا غريباً لشركة "ديزني"، مُنتجة الفيلم، بحكم ما تُتيحه لها هذه الأفلام الترفيهية من إيرادات كبيرة، مقارنة مع الأنواع السينمائية الأخرى. ورغم حرص كريس ساندرز على ضرورة المزج بين الجدّية والترفيه، إلاّ أنّه غَلَبَ الجدّية جاعلاً الفيلم كلّه مغامرة سينمائية، قِوامها الترفيه وهاجسها الحركة وأبعادها تجارية محضة.
المساهمون