تلك الفعاليات الفنية وصلت عن طريق التناقل الشفاهي، من جيل إلى جيل، وقد جرت عليها تبدلات وتطورات من خلال الإضافات التي تبعثها حاجة الإنسان العربي وتطور معارفه الشعبية، منذ محاولته أن يستفيد من البحر، ويجعل منه مورداً اقتصادياً يوفر له حاجاته المعيشية.
شكّل البحر وسيلة لنقل البضائع والسلع، تختصر المسافات الطويلة. بطبيعة الحال، هو أيضاً موطن الأسماك، ويتشكل فيه اللؤلؤ. جاءت هذه الأغاني لتوثّق علاقة الإنسان في البحر؛ فالأول يمتلك أدوات العمل أي السفن، وموضوع العمل؛ الصيد والنقل، بينما الثاني يمثّل البيئة التي يتحرّك فيها الأول، وينهل من خيراتها.
هذا شأن التراث الشعبي دائماً، فهو الموثِّق الذي اعتمدت عليه كثير من العلوم الإنسانية (الأنثروبولوجيا) وكذلك الميثيوبولوجيون الذين في جعبتهم يتوفّر كمّ هائل من الأساطير والأحاجي، التي ترسم صورة واضحة عن تصورات الإنسان العربي عن البحر وأسراره.
تلك المهن (الصيد والنقل) كانت هي الباعث الأول في تشكيل ورش على الساحل، مثل ورش صناعة السفن ولوازمها، التي ارتبطت بها الكثير من الأغاني والرقصات المُحاكية لأدوات هذا النوع من العَيش؛ الشراع والحبال والشباك والأسلحة والملابس الخاصة، وغيرها.
قبل البدء بالحديث عن أغاني البحر، لنصعد إلى ظهر سفينة صيد اللؤلؤ، ونتعرف إلى أفراد طاقمها. هذا الرجل الجالس (البدين) هو صاحب الأمر والنهي في الرحلة؛ فهو المالك المباشر أو المُدير للسفينة، وموضوع العمل (الصيد) ويسمى النواخذة. نرى حوله قارورة مملوءة بالماء التي لا يشرب منها سواه، تحيطه لفائف الأطعمة، وبطبيعة الحال له حصة الأسد حين تعود السفينة محملة بالخيرات، بعد رحلة قد تطول إلى أكثر من أربعة أشهر، تبدأ في أول موسم الصيف.
أما هؤلاء الشباب فهم الغاصة، وهم من يغوص بحثاً عن اللؤلؤ؛ لذا نراهم حاسري الرؤوس، ذوي شعر قصير، يحملون بأيديهم كمامة، يستخدمونها أثناء الغوص لتساعدهم على طول النفس. يبدو عليهم مظهر الرشاقة، ولهم الخبرة في معرفة وجود اللؤلؤ.
هناك أيضاً جماعة السيوب؛ غلاظ يتمتعون بقوة العضلات التي تساعدهم في واجبهم، وهو مساعدة الغاصة في الصعود إلى ظهر السفينة بعد عودتهم. هناك أيضاً جماعة الرديف، وهم المساعدون في أعمال السفينة المختلفة، مثل رفع الشراع وجرّ الحبال وإعداد الطعام.
بقي لدينا ذاك الرجل المتأمل للبحر، الذي تحيطه الطبول وآلات الإيقاع المختلفة، وهو مرادنا وبيت قصيدنا. إنه النهّام الذي يقوم بمهمة الغناء لا غير، ومن أجلها فقط كان ضمن الطاقم. هذا الفنان يجهد النواخذة في دقة اختيارهم له، لأنه يعرف أن حاجة الرحلة للغناء مثل حاجتها للطعام والشراب؛ لذلك لا بد أن يمتلك النهّام عدة مواصفات، أهمّها أن يكون عارفاً بفنون الغناء البحري، وما يراد لمفردات الرحلة من أغانٍ تبعث بالنفس النشاط والعزم، تبعد عن أفراد الطاقم اليأس والملل.
بطبيعة الحال، لا بد أن يمتلك صوتاً قوياً، مسموعاً حتى من بقية السفن المصاحبة للرحلة، وطبعاً عليه أن يكون متمكناً من أغاني اليامال والهوسة والبرنجة وخطفة الشراع والفجري وغيرها، التي يعتمد معظمها على فن إنشاء الموال، على أن يراعي التجديد في أبيات الشعر. عادةً ما يكون النهّام مرتجلاً لشعر الموال؛ لأن الرحلة طويلة. من أجل ذلك، يدقق النواخذة باختيار نهّام مميز، أو أكثر في بعض الأحيان، ويجزل لهم العطاء.
نعود الآن إلى اليابسة، العملية الأولى في الرحلة وبدايتها. يبدأ الأمر بإنزال السفينة إلى البحر، ورفع مرساتها من الشاطئ. طقس جماعي، يُنشد فيه الطاقم الأغاني التي تدعو الله برحلة مليئة الخير والعطاء. يقولون، في العراق: "شلنا اتكلنا على الله/ ربي عليك اتكالي.. عزيت يا من له الملك/ كريم تعلم بحالي".
حين يبدؤون برفع الشراع وتأخذ السفينة مجراها، يصدح صوت النهّام بأغانيه، يساعده في الترديد بقية أفراد الطاقم: "يا ليتني عبدكم دوم/ يا لابسات البراقع.. ومن الغوى كل شيء زين/ صف الختم بالأصابع.. صف الختم في كفوفه/ أزرق وعيني تشوفه".
حين تقلع السفينة من مكان إلى آخر(عملية البريخة)، وما تحتاج إليه من مشقة في جرّ الحبل وغيرها من الأعمال، يغني النهّام أغاني الهوسة، وتساعده الإيقاعات وأفراد الطاقم بالترديد: "ياللّي بروحي رايح/ راحت سفينة نوح.. سدّي تبين بايخ/ يوم انتوى بينزوح".
أمّا في أثناء الغوص، فيغني النهّام المواويل المعروفة بـ الزهيري السباعي، تشارك معه الإيقاعات البطيئة، ثم تشتد بعد كل موال، وتتضخم وترافق بعضها رقصات متميزة، منها: "ودّعتكم بالسلامة يا ضوا عيني/ وخلافكم ما غمض جفني على عيني.. واعدتني بالوعد لمن حفت عيني/ ظليت يا سيدي جسم تبّيا روح.. جسد، فر مني العقل ظل الجسم مطروح/ كل العرب هودت وآنه شقي الروح.. يا نور عيني مثل مرعاك راعيني".
عند انتهاء النهّام من مواله، تطلق صيحة إيقاعه "هوب يامال"، ويعقبها موال آخر، ويأخذهم الطرب حين يعود الغاصة باللؤلؤ من أعماق البحر: "الروح كيف اصبرت يوم غدا خلها/ تذكر ليالي مضت يالويل ماخلها.. شبيدي على العين في عوج الرمد خلها/ ويحق إلي لو اهمين واقطع البيدي.. ياللي تجس النبض موش الألم بيدي/ قلبي تولعْ.. كفوفي من اللمس خلها".
وبعد نهاية الغوص، واستكمال أغراض الرحلة، تبدأ السفن بالتجمع للاستعداد للعودة إلى البلاد، لكننا سنتركهم على هذه الحال، لنشهد ماذا تفعل النسوة ولماذا يقفن على اليابسة، وكيف هن مع ألم الفراق ولوعة الانتظار.
يتجمعن جماعات جماعات متجهات إلى البحر، فيوقدن النيران ويتقافزن، ويدرن حولها راميات بالنار البحر.. من أهم رقصاتهن، رقصة توب توب يا بحر: "توب توب يا بحر/ أربعة والخامس دخل.. جيبهم خاطفين جيبهم.. ما تخاف الله يا بحر/ أربعة والخامس دخل/ يا نواخذهم لا تصلب عليهم/ ترى حبال الغوص قطع أيديهم.. يا ريتني غويمه/ وأظلل عليهم".