"كفرناحوم" للّبنانية نادين لبكي: خطوة تجديدية

19 مايو 2018
نادين لبكي وزين الرفيع في "كانّ" 2018 (دومينيك شاريو/وايرإيمدج)
+ الخط -
تُسرف اللبنانية نادين لبكي، في "كفرناحوم" (2018) ـ الروائي الـ3 لها بعد "سكر بنات" (2007) و"هلأ لوين؟" (2011) ـ في التقاط نبض حياةٍ ساقطةٍ في الفقر والخراب والفوضى والعنف والفساد، وجانبٍ من مدينة مخلّعة، ووجوهِ أناسٍ مُصابين بانعدام كلّ أفق منتظر لخلاص مطلوب، وانهيار مدوٍّ في جحيم أرض مشتعلة بدمارٍ ووحشية وقسوة.

تتحرّر لبكي من تبسيطٍ سرديّ معتمد في فيلميها السابقين، محوّلة السياق إلى مداخل تفضح عيشًا لبنانيًّا عقيمًا يُحطِّم مهمّشين وملعونين، وتكشف خللاً في الاجتماع، ووهنًا في البنيان البشري، وتشرّدًا في يومياتٍ مثقلة بجوعٍ متنوّع الحالات، يُعطِّل كلّ شيء، ويضع الجميع أمام مرايا أنفسهم، وإنْ يعجزون عن تدبير أمورهم في بيئة عاجزة عن تدبير أمورها.

فـ"كفرناحوم" ـ المُشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي ـ سيكون لحظة تحوّل جذري في المسار الإخراجي لندين لبكي: تحوّل يُخرجه من "رتابة" سابقة في اختيار عناوين واعتماد معالجة وآلية عمل، كي يؤسّس منعطفًا حقيقيًا في سيرة مخرجة تؤكّد، معه، بداية تجديدية في مشروع سينمائي يقول الأشياء كما هي، ويجعل الكاميرا عينًا تعرّي وقائع وحقائق، وعدسة "توثِّق" سينمائيًا أحوالاً وحالاتٍ وانفعالات.




ولبكي ، إذْ تُمعن في تصوير الخراب ببشاعته وقسوته وضغوطه، وهي بشاعة وقسوة وضغوط حاصلة فعليًا في مدينة تختصر بلدًا ـ تختار عنوانًا لافتًا للانتباه، لما يحمله من معانٍ ورموزٍ ودلالات وإسقاطات.

فكفرناحوم مدينة كنعانية يجعلها يسوع الناصري حيّزًا لأعماله وتواصله مع أناسٍ يرفضون إيمانًا به فيلعنها ويتنبّأ بخرابها كـ"سدوم"، لكنه "يُميّز" الأطفال فيها عن الآخرين: "وأنتِ يا كفرناحوم المرتفعة إلى السماء ستهبطين إلى الهاوية، لأنه لو صنعت في سدوم القوات المصنوعة فيك لبقيت إلى اليوم. ولكن أقول لكم إن أرض سدوم يكون لها حالة أكثر احتمالاً يوم الدين مما لك. في ذلك الوقت أجاب يسوع وقال أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال" (إنجيل متى: 11، 23 ـ 25).

والطفل زين (زين الرفيع) سيكون صوتًا وضميرًا ومرآة لبيئة وأفراد. سيكون حكيمًا في رؤيته وقوله ومشاهداته وتعبيره ونُطقه. سيكون فهيمًا في قراءته اللحظة والعيش، وفي تعريته الآنيّ والمخبّأ في نفوس ووجدان. سيكون اللعنة أيضًا على مدينة تخشى اغتسالها من أدرانها، وتخاف توبتها، وترتعد فرائصها أمام انكشافها وموتها ومواجعها؛ وعلى أناسٍ مترهّلين لشدّة بؤسهم، ومنكسرين لشدّة حُطامٍ يُصيبهم في أعماقهم فيستسلمون لخرابٍ عميق.

الطفل زين ركن "كفرناحوم" الجديدة، التي ترسم نادين لبكي ملامحها وواقعيتها وخرابها بلغة أعمق وأمتن، وبصُوَر أجمل وأقدر على التأثير، وإنْ تميل حوارات عديدة إلى ما يُشبه تنظيرًا وتفلسفًا، وإنْ تُتوَّج النهاية بخطاب إيجابي إزاء ركنٍ من أركان النظام الحاكم في لبنان.
حتى زين يقع ضحية أقوال أكبر من عمره (نحو 12 عامًا).

لكن الأصل متوهّج بجماليةِ مُشاكسةٍ صادمةٍ واستفزازية، تريدها نادين لبكي في مقارعة أحوالٍ قاتمة، وبناءٍ ـ اجتماعي واقتصادي وسياسي وقانوني ـ صارم ومتعنّت ومحتاج إلى تأهيل وتبديل. ورغم بساطة أدائية يتمتّع بها زين الرفيع، إلاّ أن قوّة التعابير التي تُقال على لسانه تُبعده ـ أحيانًا ـ عن سلاسىة وعفوية يُفترض به أن يتمتّع بهما.

والأداء، السلس والعفوي، سمة آخرين غير محترفين (كوثر الحداد وفادي كامل يوسف ويوردانوس شيفراو)، كأنهم يجلبون حيوية أوضاعهم من يومياتهم التي يعتادون عيشها في ظروفٍ بائسة ومؤلمة.

أما التصفيق في "صالة لوميير" (قصر المهرجانات) فترحيبٌ بـ"كفرناحوم" وفريق العمل، يُشبه الترحيب بأفلام المسابقة الرسمية في عروضها الدولية الأولى، وهذا حسنٌ ومطلوبٌ. لكن التصفيق في "صالة دوبوسّي" (العرض الصحافي لجديد نادين لبكي) فمقياس أهمّ لحُسن استقباله الصحافيّ والنقديّ، وإنْ في انفعالٍ إيجابي أوّل ومباشر يستحقه الفيلم وصانعوه.




المساهمون