ترتقي أفلامٌ لبنانية عديدة إلى مستويات جمالية مُبهرة، رغم قسوة مواضيعها. متمكّنة هي من صناعة صُور حيّة عن ذاكرة وراهن، أو عن حالة وبوح، وإنْ يغرق البلد في انهيارات شتّى، ويُصاب ناسه بمواجع تبدو كأنها لن تنتهي. الناس يتحمّلون بعض المسؤولية، لكن البلد برمّته منهارٌ ومعطوب. رغم هذا، تخرج السينما من خراب البلد وتمزّقات ناسه، كي تُعلن ولاءها لجماليات مُتقنة، تكشف شيئًا من أعطاب البلد ومواجع ناسه، فتُمنع من العروض التجارية وغير التجارية، لشدّة وفائها للسينما كفن وصناعة، وللمواضيع كمسائل وانفعالات.
هذا ليس عاديّاً. نتاجات سينمائية لبنانية تقول نقيض الواقع المعطَّل في السياسة والاقتصاد والاجتماع والإعلام، وفي كثيرٍ من الثقافة والفنون. تكسر حاجز الخوف، وإنْ يمنعها قلقون من انكشاف مخبّأ أو مناقشة مبطّن. الترفيهيّ والتبسيطيّ والسطحيّ مُتاح له انتشار جماهيري، لانعدام مُسبّبات القلق والإرباك في نتاجات هذا النمط. بعض الجدّي أيضًا يُعرض بكثافة ويُشاهده عديدون، وإنْ يكن محتاجًا إلى جدّية أعمق في طرح المسائل والتساؤلات، وتمكّن أسلم في المعالجة والقول. لكن غالبية النتاجات تعجز عن تواصل ضروري مع ناس البلد، لأن مسؤولين يرفضون تواصلاً كهذا.
"بانوبتيك"، الوثائقي الأول لرنا عيد، مثلٌ على ذلك. تجواله في ذاكرة فردية مفتوحة على تاريخ وحكايات جماعية يُقلق مسؤولين فيقفون حائلاً دون ذهابه إلى أمكنته الطبيعية، وإلى ناسه العاديين. وثائقيات لبنانية أخرى تنهل من أحوالٍ منطلقة من الذاتيّ إلى الجماعي، تتجوّل في مهرجانات دولية، فينال بعضها جوائز، بانتظار عروضٍ محلية يُفترض بها أن تكون مواعيدها قريبة. وثائقيات كهذه تؤكّد، مجدّدًا، ارتقاء الفيلم اللبناني إلى أصفى جماليات ممكنة، رغم العنف المبطّن في الموضوع والحكاية: "طرس ـ الصعود إلى اللامرئي" لغسان حلواني، و"تحت التحت" لساره قصقص، مثالان اثنان يعكسان شيئًا من حيوية الصورة الوثائقية في مقاربة راهن وتاريخ.
العالم يتغيّر. الجغرافيا المحيطة بالبلد تغرق بالدم والغبار والجنون. هناك أيضًا للسينما حضور وجماليات: "عن الآباء والأبناء" لطلال ديركي ينضمّ إلى اللائحة القصيرة لـ"أوسكار" أفضل فيلم وثائقي لدورة عام 2019. "يوم أضعت ظلّي" لسؤدد كعدان ينتقل من مدينة إلى أخرى ومن مهرجان إلى آخر، حاملاً شيئًا من قلق فرديّ في حربٍ وحشية. "لسّه عم تسجل" لغيّاث أيوب وسعيد البطل يضع الوثائقي أمام امتحان البراعة في امتلاك جمالية التصوير والتقاط اللحظة، جاعلاً من الكاميرا لغة، ومن الواقع حياة نابضة بالعيش على حافة الموت، أو فيها.
3 أفلام سورية تشعّ بهاءً وجمالاً، وإنْ تروي بعض خرابٍ وعنف. فلسطينيون عديدون يروون سِيرة العيش في مواجهة يومية لاحتلال إسرائيلي، بنبرات سينمائية مختلفة، تتوزّع على الكوميديا الساخرة المحمّلة بكثيرٍ من التحدّيات والمواجهات ("تل أبيب ع نار" لسامح الزعبي)، وعلى كشف يوميات يُفترض بها أن تكون طبيعية لكنها لن تكون كذلك، لأنها تُعاش في بلدٍ محتلّ ("التقارير حول ساره وسليم" لمؤيد عليان)، وعلى توغّل في النفس الفردية الطالعة من جحيم السجن الإسرائيلي إلى الحصار الفلسطيني الأوسع ("مفك" لبسام جرباوي).
هذه أمثلة، لا تحليل نقديًا لحالة سينمائية. أمثلة تقول إنّ هناك جماليات سينمائية تُصنع في جغرافيا عربية ملتهبة خرابًا ومصائب وتحدّيات، وتخرج من أرضٍ محروقة كي تقول حياة وانفتاحًا، وكي تواجه وتتحدّى. النقاش النقدي محتاجٌ إلى حيّز آخر، رغم أنه لن يكون سلبيًا، فالاختبارات المذكورة، وهي جزءٌ من حراك أكبر، تشي بأن للسينما العربية الجديدة، في هذه الجغرافيا مثلاً، ركائز تجديدية، ومحاولات تُناهِض المسطّح والاستهلاكيّ والباهت، ليس لأن مهمّتها مناهضة هذا كلّه، بل لأنها تمتلك شرطها الجمالي في البناء والمعالجة والسجال والكشف، وهذا كافٍ لأنه الأهمّ.
أسئلة تُطرح عن إنتاجها ولغتها وكيفية مقارباتها الدرامية والإنسانية والأخلاقية. هذا طبيعي. لكن المشترك بين الأفلام المذكورة مبنيّ على تجريبٍ يخترق المألوف بذهابه إلى "أمكنة" ممنوعة في الاجتماع العربي، وفي عقل عربي متحكّم بالواقع والتاريخ والذاكرة. وهذا، بحدّ ذاته، صعبٌ، لكنه لن يحول دون إقدام سينمائيين عرب عديدين على "ارتكابه" في أفلامهم تلك.