نهاية الشهر الماضي، في برلين، قدّمت أوركسترا "أورنينا" السورية، بقيادة شفيع بدر الدين مُختارات من الموسيقى العربية الكلاسيكية والشعبية. من جملة المقطوعات والأغاني، واحدة بعنوان متتالية الربيع، من إعداد بدر الدين. من الاسم، تستلهم المقطوعة الغنائية ثورة الشعوب العربية منذ عام 2011، من خلال جمع أغان فلكلورية لمختلف البلدان، من الشام إلى تطوان.
رغم تراجع خطاب الوحدة العربية بعد خمسة عقود على رحيل رمزه جمال عبد الناصر، وعلى الرغم من فشل أكثر من مشروع وحدوي عربي، ثم سقوط نظام البعث في العراق إثر الاحتلال الأميركي عام 2003، ومن بعده انزلاق حزب البعث في سورية إلى مواجهة مع الشعب، استعرت حرباً أهلية إثنيّة وطائفية؛ إلّا أن الشاميّين لا يعدمون مناسبةً لِيغنّوا ويهتفوا من جديد للعروبة.
تاريخياً، لعبت الشام الطبيعية دور المركز القلق. من جهة، هي مهد عدّة انطلاقات نحو بناء هويّة عربية، ليس أولها الخلافة الأموية وليس آخرها حزب البعث نفسه. من جهة أخرى، ظلّ الإقليم يتأرجح بين قُطبين إقليميّين مؤثرين جيو - ثقافياً، هما العراق ومصر. من خلال الجذب تارةً، وتارةً الانجذاب، انعكست مفارقة الثقل والتأرجح تلك، على، ومن خلال الموسيقى والغناء.
حلب وليس دمشق، كانت نقطة العبور والالتقاء بين أهل النغم والطرب، ومنهم آباءٌ مؤسسون في كل من العراق والشام ومصر. حلب رأسُ مثلّثٍ حضاري جمع الموصل وطرابلس لبنان، ازدهر ثقافياً وأدبياً على زمان سلالة سيف الدولة الحمداني في القرن العاشر والحادي عشر ميلادي. في أجواء التسامح والانفتاح آنذاك، نمت وتبلورت أنماط الرقص والغناء، كالسماح والقدود.
حلب منتصفَ القرن التاسع عشر، كانت نافذةَ العرب على الأستانة (إسطنبول)، عاصمة الإمبراطورية العثمانية، ومركز إشعاعها الفني. فيها تطوّرت القوالب الموسيقية الآلية التي عبرت من حلب ثم راجت في ما بعد في كل من العراق وسورية ومصر. من حلب، انطلق عُشّاق مزاولة العزف والغناء نحو إسطنبول، ومنها إلى حلب أتى صُنّاعها وروّادها، ثم من حلب باتجاه بغداد والقاهرة.
لعل علمين بارزين جمعتهما حلب أول القرن العشرين، واحدٌ عراقي والآخر مصري، كان لهما الدور الأكبر في رسم العلاقة الفنية بين الشام الطبيعية مركزاً قلقاً، وكلٍّ من أرض الرافدين والنيل. هما الملّا عُثمان الموصلّي ابن الموصل، الشيخ والعلامة الموسيقي الذي درس ودرّس في كل من العراق والشام ومصر وحتى الأناضول، وتلميذه المصري سيّد درويش، سيد الأغنية العربية.
تلك الجمعة الحلبية البهيّة، ومن دمشق سينضم إليها الرائد الموسيقي والمسرحي أبو خليل قبّاني، جعلت من الشام مجالاً حيويّاً شكّل ملامح هوية موسيقية غنائية عربية جامعة، ستنتقل من المطبخ الحلبي، وبحكم الثقل الجيوستراتيجي نحو مصر مطلع القرن العشرين. وسيعبرُ نجومٌ وروّاد آخرون أرض الشام، كعمر البطش وفريد الأطرش وعفيفة إسكندر وناظم الغزالي.
ثلاث حواضر عربية كان لكل منها دورة في احتضان الخلافة الإسلامية. بغداد ودمشق والقاهرة. ثلاثة أقاليم في كلِّ مرّة جُمعت أو اجتمعت حول راية واحدة، حوّلت الشرق الأوسط إلى قوّة سياسية وثقافية مؤثرة. حدث هذا حين توّلى صلاح الدين الأيوبي مصر وضمها إلى أميره نور الدين زنكي في عزمه على إنهاء حكم الصليبيين. وحدث هذا، أيضاً، في الحرب على إسرائيل سنة 1973.
في هذا السياق التاريخي، السياسي والثقافي، استوعب الشآمي أثر كلّ من بغداد والقاهرة. رغم نشوء تيار قومي سوري مطلع القرن الماضي، ألِف أهل الإقليم كلاً من اللهجة العراقية، واللهجة المصرية التي بثها الراديو والتلفزيون وشاشة السينما منذ الثلاثينيات والأربعينيّات، فضلاً عن قربها من لهجة أهل النقب جنوب فلسطين.
تذوّق الشآميّون لون المقام العراقي ببذوره المحليّة المجاورة، الكلدو آشورية والكردية والتركمانية، ببُعيده المُرتفع وطبيعته الميلانكولية، بقدر ما تذّوقوا أيضاً لون الطرب المصري ببُعيده المنخفض وبهرجة إيقاعاته التي تعود بالأثر إلى الأصول الفرعونية وطقوس الكنيسة القبطية، التي تستخدم مُدبّبات الطبول ومُسطّحات الصنوج. كما ولا تزال تحتفظ بتراتيل وألحان يُطلق عليها "الشامي".
معهد الفنون الجميلة، أول معهد للموسيقى في العراق سنة 1936 الذي عُهد تأسيسه وإدارته إلى الشريف مُحيي الدين حيدر، ومنه تخرّج كبار المدرسة البغدادية سواءً في العود أو الغناء. ومعهم، تأسست الحركة الموسيقية كما سيعرفها أهل العراق. كان الشريف حيدر قد استقدم الشيخ الحلبي علي الدرويش من مصر، ليتولّى قسم آلة الناي، وتدريس فن الموشحات الغنائي.
انفتاح المؤسسة الرحبانية على كلٍّ من المعينين الثقافيين العراقي والمصري، وجهٌ آخر من وجوه الاحتضان العروبي الذي ميّز أهل الشام. ضم الرحابنة وفيروز على خُطا المشوار الأوَل كبيراً من العراق هو مُنير بشير. جسّد عمله ضمن طاقم إذاعة الشرق الأدنى في بيروت، شراكةً فنية وفكرية ضمن المشروع الرحباني. كان بشير فيه مُدافعاً شرساً عن بلورة موسيقى عربية اللون والطابع.
الانجذاب الرحباني نحو مصر، وخصوصاً في فترة ما قبل مهرجانات بعلبك 1957، هو بمثابة قدر محتوم وإن ظلّ محموداً، لشدة قوة الاستقطاب ناحية مصر الثورة والحقبة الناصرية. تمظهر هذا الانجذاب فترةَ إنتاج الاسكتشات الغنائية، عبر أثير كل من إذاعتي دمشق واللبنانية. كان سيد درويش الأقرب إلى نفس الرحابنة الاجتماعي، والتي تجلّت لاحقاً في مسرحهما الغنائي.
بالعودة إلى السياسي، دوماً من باب الثقافي؛ تبدو الخارطة البشرية لبلاد الشام شديدة التنوع والتركيب الإثني، كأنها ترنو باستمرار إلى إطار جامع رآه الشاميّون في العروبة لغةً وثقافة. إنّ عروبةً ديموقراطية تصون الحقوق الثقافية لغير العرب وعلى رأسهم الكُرد، لعلها تكون، تسليماً بجدلية المركز القلق، هي الخيار الأفضل، حفاظاً على الوحدة والسلم الأهليين في المستقبل.