يندرج "أليس والعمدة"، الفيلم الروائي الطويل الثاني للفرنسي نيكولا باريزي (1974) ـ المعروض في "نصف شهر المخرجين"، في الدورة الـ72 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2019) لمهرجان "كانّ" السينمائي ـ في إطار تقليد عريق، يُمثّل "القلب النابض" للسينما الفرنسية، المعروف بـ"أفلام الوسط". المقصود أنها أفلام متوسّطة الميزانية، بحكم توفّرها على "كاستينغ" مهم نسبيا، وسعيها إلى رهان فني طموح، يتطلّب إمكانيات لا بأس بها على مستوى الفضاءات والتقنية، ويشرف عليها مخرجون ذوو رؤية متفرّدة، كما باريزي، القادم من تكوين أساسي في القانون ومدرسة النقد، ما يفسّر شغفه الكبير بالسياسة والسينما كثنائي لا يُفرّق بينهما، قبل أن يكشف عن نفسه بالـ"ثريلر" السياسي، "اللعب الكبير" (2015)، أول روائي طويل له.
لا يمكن عدم التفكير في مرجعية المؤلَّف الأشهر لكارول لويس، "أليس في بلاد العجائب"، مع اكتشاف انبهار أليس (أناييس دوموستيّه، في أداء أخّاذ) ـ المُستَخدَمة الجديدة في فريق عمدة مدينة ليون، بول تيرانو (فابريس لوكيني في قمّة فنه) ـ بمعمار مقرّ العِمادة، بطرازها العريق، وشخصيات مستخدميها، المُغرقة في الكاريكاتورية. فأليس لا تعرف كنه مهمّتها، ولا يزيدها الشرح المقتضب، المُقدّم من مديرة ديوان العمدة، سوى حيرة على حيرتها: "ستكلَّفين بمساعدة العمدة على ابتكار أفكار جديدة، أو ستكونين مستشارته للاستشراف والتفكير".
يتقدّم الفيلم كقطار في ظلمة الليل، وفق إيقاع محكم وسلس، قوامه مونتاج (كريستال دوفينتر) يتأرجح بين فعالية وتيرة جدول أعمال العمدة، الممتلئ والمتلاحِق من جهة، وغرابة لقاءاته المثالية، المحفوفة بسوء الفهم مع أليس، من جهة أخرى. لقاءات تتخلّلها حوارات غاية في الذكاء والإيحائية، تستدعي، من دون خطابة أو أطروحة، مأزق ممتهني السياسة في المنظومة الغربية، بمنظور عمدة لم يعد قادرا على إنتاج الأفكار. صُوِّرت الحوارات بلقطات مطوّلة، ونَفَس مسرحي واضح، ما يدلّ على أنّ المسرحية ليست مشكلة بحدّ ذاتها، إذا وجدت إيقاعها الصحيح وزاوية الرؤية والمعالجة المناسبة، كي لا تصبح مجرّد مسرح مُصوَّر.
هذا يعني أنّ باريزي يُقدِّم، عبر سيناريو عن الفكر في السياسة، نظرة وافية وعميقة الأبعاد، عن التحدّيات الأخلاقية والإنسانية التي تواجه السياسة (اليسارية خصوصا)، والرهانات الكبرى المطروحة أمامها، وأهمّها: ما مدى تطابق متطلّبات التقدّم مع مستلزمات الحفاظ على البيئة اليوم؟ رهان تجسّده هشاشة شخصية طريفة وجذّابة (زوجة صديق أليس الحميم) تتّخذ من الفنّ المعاصر وسيلة للفت انتباه السياسيين إلى مدى هشاشة مستقبل البيئة، فيحدث تطابق سردي رائع بين مصير الشخصية، وما يمكن أن يلحق بالأرض في المستقبل، إنْ لم يتغيّر سلوك البشر بشكل جذري.
في الفيلم، تبئيرٌ عبقري على مدى الابتذال الذي طاول ممارسة السياسة، ما يجعل ممتهنها يلفي نفسه في نفور وتعارض مع محيطه، وانتظارات هذا الأخير منه، بمجرّد أن يجدّد التواصل بالأفكار والفلسفة، اللذين يُفترض بهما تشكيل عصب السياسة ومرتكزها. حرص المخرج وكاتب السيناريو (باريزي) على تأثيث هذه المفارقة في نظام السرد، عبر شخصيات سميكة، متجنّبا الكليشيهات التي تطبع عادة الشخصيات السياسية: مديرة الديوان التي لا تمنعها صرامتها من أن تكون شبه أمّ حامية لأليس، وتطور مدير التواصل من العدو اللدود لأليس إلى صديقها.
"أليس والعمدة" فيلم كبير عن السلطة ومعنى الالتزام، في زمن فقدت فيه السياسة كثيرا من رصيد الأمل والثقة، الذي كان يربطها بالشعوب، ما أفضى إلى ظهور شرخ مهول (يزداد اتساعا يوميا) بين الخطاب والفعل. شرخ برع باريزي في سبره، بفضل ارتكاز حكي الفيلم على تحليل ميكانيزمات الخطاب السياسي نفسه، على ضوء حوارات بين سياسي مثقل بالخبرة والبراغماتية، وفيلسوفة صغيرة مفعمة بالطوباوية.
ولعلّ أجمل تجليات هذا الطّرح هو الخيط الدرامي المتعلّق بموضوع "التواضع الفلسفي"، الذي يعبر الفيلم من البداية إلى النهاية. هذا التضاد والمفارقة شكّلا المحرّك الأساسي لـ"أليس والعمدة" حتى المشهد الأخير (الذي جاء على شكل ملحق، بعد فجوة دامت ثلاثة أعوام)، يجسّد أخيرا نوعا من التناغم بشكل مؤثّر (لن نحرق تفاصيله هنا).
قبل ذلك، يبلغ الفيلم أوجه، حين يسقط العمدة ضحية أزمة ضمير، تدفعه إلى إعادة النظر في أولوياته الشخصية والعملية، ملغيا أحد أهم مشاريع فترته، المتمثّل في احتفال "ميغالوماني" وعديم المنفعة، بمناسبة مرور "2500 عام على تأسيس ليون". وهذا بعد لقاء مع زوجته السابقة، شاءت الاختيارات الموفّقة لإخراج باريزي أن تتركه خارج حقل الفيلم. المزج بين العملي، ذي الأبعاد الهائلة (سعي تيرانو إلى تمثيل اليسار في سباق الرئاسيات المقبلة) والحميمي (وحدة العمدة التي تجد في تعاسة أليس صدى ومواساة لها)، والتذبذب بين التراجيدي والكوميدي (السوداوي أحيانا)، هو سرّ جاذبية الفيلم التي تثير رغبة ملحّة في القراءة أولا، باعتبار لازمة الكتب الرائعة التي تشكّل هدايا تقدّمها أليس إلى العمدة، وشعورا ينتاب من جدّد نَفَس أفكاره عن السياسة والحياة، وكم هي وطيدة العلاقة بينهما. الأهم من هذا: كم هو أساسي، اليوم أكثر من أي وقت مضى، الحرص على استمرارية هذه العلاقة.
تقول إحدى أصدق جمل الحوار بين تيرانو وأليس ما يلي: "في الماضي، كان الناس يحرصون على المطالبة بمزيد من الحرية والديمقراطية. اليوم، لديّ انطباع أنهم أصبحوا يحترسون منهما".