أفلام قصيرة: اشتغالات عربيّة تُعاند السائد

23 سبتمبر 2019
الأردنية زين الدريعي: معاندة الواقع (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
كما في مهرجانات سينمائية عديدة، تضمّ مسابقة الأفلام الروائية القصيرة في الدورة الثالثة (19 ـ 27 سبتمبر/ أيلول 2019) لـ"مهرجان الجونة السينمائي" نتاجات عربية وأجنبية (إنتاج عام 2019)، تتنافس ـ في خانة واحدة ـ على جوائز مختلفة. هذا الخلط، القابل للنقاش كحال مسابقة الأفلام الروائية الطويلة، يتيح لمتابعها معاينة الفوارق في مستوياتها الفنية وأساليب اشتغالاتها السينمائية، المُيَسّرة لبسط رؤية صنّاعها لأنفسهم ومجتمعاتهم. 

"الحِدّة" و"النبرة العالية" غالبة على أكثرية النتاجات العربية، كما "البساطة"، المتأتية على الأرجح من شحّ ميزانياتها الإنتاجية، لا كحصيلة خيار أسلوبيّ لمخرجيها، ما يُثير إحساسًا بأنّ معظمهم يعاملونها كخطوة تمهيدية للانتقال إلى الروائيّ الطويل، أو كتمرين إلزامي يُبطِل البطالة عن العمل.

هذا حاضرٌ في فيلمين مصريين، هما "عمى ألوان" لمنة إكرام و"هذه ليلتي" ليوسف نعمان، والأخير، رغم كثرة شحناته العاطفية المجانية، يُنشد تشخيص فوارق اجتماعية صارخة، وقهرًا أنثويًا موجعًا.

"تصغير" موديلات الأفلام الروائية الطويلة إلى قصيرة مُضرّ، يُضِيّع ما في الأخيرة من متّسعات عمل. على عكسها، نجد في الأفلام الأجنبية ما يصلح لأنّ يكون درسًا للماضين في تصغير الروائي بأسلوب "الكبس" الميكانيكي، الذين يخسرون ما فيه من إمكانية صنع تحف سينمائية، كالإسباني "السادس عشر من ديسمبر" للفارو جاجو دياز.



اللافت للانتباه في هذه المسابقة كامنٌ في "الفيلم الأردني"، فهناك جهد ملحوظ، ومحاولات تعكس فهمًا صحيحًا عند المخرجين لصناعة الروائيّ القصير. زمنها وكثافة سردها يتيحان تمرير أفكار ورؤى نقدية لمجتمع محافظ، يرتاح لطمس كلّ ما يخدش مثاليته ونظافة "بدويّته".
في "فريكة"، يُقدِّم باسل غندور قصصًا تسرد واقعًا متحوّلاً، يفرز شرائح اجتماعية عابرة للصُوَر النمطية المُراد تثبيتها. ليس هناك سلام مجتمعي ولا طمأنينة، فالمخدّرات منتشرة في الأحياء الشعبية، و"زعرانها" يتصرّفون وفق أساليب "مافيوية". التوتّر الداخلي يُفجَّر بكلمة واحدة عديمة المعنى. فيه اشتغال سينمائي جيّد على الشخصيات والكاميرا. لا حوارات مملّة، ولا ثبات حركة في المشهد الواحد. ديناميكية تتطابق مع عنف منفلت ومتصاعد. هاجس الكشف عن المترسّخ من ذكورية و"مرجلة" بدوية، مُثبتٌ في نصّ واضح، ينشد مصارحة الذات بواقعها. التناقض صارخ بين "مدنيّة" عمّان وقيم الذكورية. فعل "إهانة" صغير يختصرها، ويكشف عن مأزق أخلاقي عميق. 17 دقيقة فقط تقول الكثير.

صرخة "سلام" (15 دقيقة) لزين الدريعي عالية ضد مَهانة المرأة الأردنية. بها، تصب جام غضبها على نذالات سلوك ذكوري مبطّن. فكرة إحالة "العقم" على المرأة راسخة في المجتمعات العربية. لا تريد الدريعي تكريس فيلمها لها. ما يهمّها رياء الرجل الشرقي "العصري" إزاء شريكة حياته. فهو، وفي لحظة شعوره بضعفه وذنبه، لا يتجاوز هذا بشجاعة، بل يعمل بدهاء، وبسند منظومة حماية اجتماعية مُكرّسة له أثناء بحثه على اللعب عليها. غالبًا ما يعود، بسهولة، إلى تلك القِيَم الاجتماعية المتخلّفة، التي يدّعي تخلّصه منها.

السلوك المزدوج يظهر في قبول زوج سلام بقرار عائلته تزويجه امرأة أخرى، بعد حكمٍ قاطع بأنّ سلام عاقر، وأن "العقم" متأتٍ منها. رغم معرفته حقيقة "عجزه"، ينصاع لما في داخله من رغبة كامنة في إشراك امرأة أخرى مع زوجته المعافاة. قرارها بتركه تصعيد درامي، أرادته الدريعي إعلانًا عن احتجاجها على حيف وظلم، مبعثهما ذكورية، يجتهد المجتمع الأردني كلّه على بقائها. خروج سلام احتجاجًا على الذكورية مَصوغ بأسلوب سرد سينمائي متماسك ومقنع. فكرة "الضربة" السريعة لإيصال مضمون صادم، مُحقَّق في منجز أردني، يضاف إلى رصيد سينماه القصيرة الجيدة.

إحالة المنجز الإبداعي السينمائي الفردي إلى مكانه الجغرافي، مبرّر عندما يجري الحديث عن ظاهرة سينمائية ما، ملتصقة علاماتها بالمكان نفسه. ذلك ينطبق على النتاجات اللبنانية، خصوصًا عند الإشارة إلى الوثائقي فيها. يُمكن قول الكلام نفسه عن الأفلام القصيرة. فهذا البلد الصغير (لبنان) لا يزال يقدّم أعمالا مهمّة من ذلك "الجنس" السينمائيّ.



أبرز تلك الأفلام، "أمّي" (17 دقيقة) لوسيم جعجع. فيلم مدهش في اشتغاله، وفي شدّة محليّته. نصّه يعاند شكلانية الإيمان الديني والطائفيات، كبطله الياس، الطفل الذي يُعاند قبول فكرة موت أمّه، ويُعاند السيد المسيح أيضًا، مُشترطًا للإيمان به إرجاع والدته إليه. يتصاعد عناده، فيسرق تمثال السيدة مريم من كنيسة الضيعة، للضغط على مسيحه وقسيس كنيسته، لإرجاع أمه حيّة. فيلمٌ مكتوب بلغة لا تخلو من سخرية، رغم مرارة ما يحسّ به بطله، الذي يجد نفسه بعد موت أمه في تعارض مع عبارات في الكتاب المقدّس، تبرّر ذهابها إلى السماء من دون رجعة، بينما يريدها معه على الأرض.

بدهاء، يلامس جعجع الافتراق الطائفي اللبناني، ووجوده مبطّن حتى اللحظة. يسخر من "كليشيهات" مجتمعية وسلوكيات إثنية متناقضة. يقرأ المشهد اللبناني بعين واعية، لا تُجامل ولا تُوارب، بل تُعاند وتمضي في عنادها حتى النهاية. فالخسارات الكبيرة لا يُمكن محوها بكلمات وعبارات مجوّفة، ومغطاة بإيمان وورع كنسيين، يعجزان عن إشفاء غليل طفل خسر أمه، ويريد استرجاعها من الذين "أخذوها" منه، كما يقولون له برضى ثابت. ما يصنعه الياس بأهل قريته منطلق مما يقولونه، ومن قبولهم بعدالة موت صادم يؤذي روحه الصغيرة، التي لا تحتمل قسوته.

باختصار: "أمًي" عن فساد تربية، ورياء مجتمعي، وأكاذيب متلازمة لمسيرة حياة.
المساهمون