مع شيوع نبأ رحيل ماكس فون سيدو، في 8 مارس/ آذار 2020، يستعيد مهتمّون بالسينما عناوين تطبع سيرته المهنيّة. يتذكّرون أدواراً تعكس شيئاً من جمالية أداء وحيوية تمثيل. يقولون إنّ له في ذاكرتهم محطّات، تبدأ بإنغمار برغمان، المخرج الذي جعله ممثّله الأثير (لهما معاً 11 فيلماً بين عامي 1956 و1971). يتوقّفون عند أفلامٍ مع كبار الفنّ السابع: وودي آلن وجون هيوستن ولارس فون ترير وفيم فاندرز وبِلْ أوغست وبرتران تافرنييه وبولي لانِّرز، وغيرهم. يهجسون بلقائه الموت في "الختم السابع" (1957)، أول تعاون مع برغمان. يرونه في مستقبلٍ بعيدٍ جداً، فينتظرون إطلالة أو تصرّفاً أو قولاً له، فهو في "الكثبان الرملية" (1984)، يعمل بإدارة ديفيد لينش (Dune). يُخرِجون من ذكرياتهم عنه اشتغالاتٍ أخرى: Duet For One للسوفييتي أندره كونشالوفسكي (1986)، The Exorcist للأميركي ويليام فريدكِن (1973)، Three Days Of The Condor للأميركي سيدني بولاك (1975).
اللائحة تطول، فماكس فون سيدو يحفر في تاريخ الفنّ السابع منذ عام 1942، وله في عام رحيله جديدٌ أخير بعنوان Echoes Of The Past لليوناني (المُقيم في لندن) نيكولاس ديميتروبولوس. في بلده، نتاجٌ يضعه في واجهة المشهد. في دول أخرى، اختباراتٌ ومغامرات. يقبل دوراً في عملٍ لتوماس فنتربرغ في "كورسك" (2018)، كتمرينٍ جمالي إضافي. تمنحه فرنسا جنسيتها عام 2002، بعد سنين من العمل السينمائي فيها. يبدأ في مسرحٍ مدرسيّ، يُشكِّل خطوة أولى له في التمثيل. ينتقل إلى بلاتوهات السينما. يخرج إلى أميركا، فيستقبله العالم أكثر فأكثر. حضوره أمام الكاميرا طاغٍ. جسمه الفارع يملأ الشاشة، فيبدو كأنّه القابض على أرواح الآخرين فيها. نبرته تُخيف أحياناً، ففيها نبضٌ ملتبس المعنى، ما يُحصِّن شخصياته السينمائية من الوضوح والمباشرة، ولو إلى حينٍ دراميّ معيّن، مع أنّ الوضوح والمباشرة يبتعدان عنه أحياناً عديدة. صوته مرتكز إلى لغات يُتقنها منذ طفولته في "لوند" السويدية، المولودة فيها يوم 10 إبريل/ نيسان 1929.
هذا جزءٌ من كيانه الحياتي ومهنته الفنية. استعادة نتاجه كلّه لحظة وفاته، صعبة. وفرتها تُساوي بين أفلامٍ راسخة في ذاكرة السينما ووجدان كثيرين، وعناوين تميل كثيراً إلى التجاري والعادي والعابر. رحيله دافعٌ إلى تساؤل عن مغزى قبوله أعمالاً في نمطٍ غير متلائم وسيرته. تُحَيَّد تجربته مع ستيفن سبيلبيرغ، أكثر الهوليووديين مزجاً سينمائياً بديعاً بين التجاري والفكري والجمالي والتحريضي على التأمّل في راهن وماضٍ ومقبل من الأيام ("تقرير الأقلية"، 2002). لكنّ انغماسه في أفلامٍ تتناقض ومفردات تمثيله يحثّ على محاولة فهم سبب ذهابه في الاختبار إلى جهة أخرى. مشاركاته في الجهة الأخرى عديدة، لكنّها لن تحول دون هواجس تضع مشاهدي أفلامه أمام روائع الفنّ السابع، الذي يصنع جزءاً منها.
يصعب قبول اختباراته التمثيلية في أفلامٍ أقلّ أهمية سينمائية من نتاجاته الأجمل، وإنْ يجد تحليل نقدي فيها انعكاساتٍ لتساؤلات آنيّة، ولانفعالاتٍ مرتبطة بذاتٍ وروحٍ وقلاقل. عودته إلى زمن سابق على الحضارة الحديثة، في "كونان البربريّ" (1982) لجون ميليوس، محاولة استكشاف أنماطٍ حياتية بتساؤلاتها المختلفة. يبدأ الفيلم بقولٍ لفريدريك نيتشه (ما لا يقتلنا، يجعلنا أقوى)، كأنّ القول دعوة استباقية إلى تعاملٍ سوي مع فيلمٍ، بطله أرنولد شوارزينيغر وعضلاته، وإنْ يكن هذا قبل تحوّل شوارزينيغر إلى نجم أفلام حركة وتشويق. مشاركته في إحدى الحلقات السينمائية لـ"جيمس بوند"، عام 1983 ("لا تقل أبداً مرّة أخرى" لإرفن كيرشنر) إضافة إلى الفيلم لا إليه شخصياً. حضوره في "مطاردو الأشباح 2" (1990) لإيفان رايتمن يُنسَى لشدّة التبسيط السينمائي في فيلمٍ يستعين بالخيال العلمي لتسلية جمهورٍ محتاجٍ إلى تسلية عابرة. انتقاله من بدايات شوارزينيغر إلى إحدى محطات سيلفستر ستالوني، مع "القاضي دْرَد" (1995) لداني كونان، أشبه باستراحةٍ تتّخذ من الصناعة السينمائية حيّزاً لها. مع Rush Hour بجزئه الثالث (2006) لبْرَت راتنر، و"روبن هود" (2010) لريدلي سكوت، و"حرب النجوم، الحلقة 7: يقظة القوّة" (2015) لجي. جي. أبرامز، لن يتبدّل شيءٌ كثيرٌ، ولن يكون ماكس فون سيدو مؤثّراً فيها، ولن تكون هي إضافة له.
هذا لا يلغي امتلاك فيلمي سكوت وأبرامز مفرداتهما الفنية الباهرة، وأسئلتهما المُكمِّلة لسلسلة جورج لوكاس (حرب النجوم)، والمنفتحة مجدّداً على مفاهيم الشرف والصراع الطبقي والحروب من أجل حرية وكرامة، بحسب تصوّرات سكوت (روبن هود). المسألة كامنةٌ في سبب اختيار ماكس فون سيدو سيناريوهاتٍ كهذه، في محطات مختلفة من سيرته المهنية، وبعضها لاحقٌ لروائع سينمائية، له دورٌ في صُنعها: أهي حاجةٌ إلى عملٍ، أو رغبةٌ في الاستمرار في العمل، أو قناعةٌ بأنّ التمثيل في أفلامٍ كهذه تمرينٌ مطلوبٌ للحفاظ على نضارة المهنة وحيويتها، من دون أنّ يهتمّ الممثل بالقيم الدرامية والجمالية والفنية؟
لا إجابات.
رحيل ماكس فون سيدو يوقظ في المرء شغف مُشاهدة أخرى لأفلامٍ تُعتَبر ركائز للفنّ السابع، بأصالته وهواجسه ومنزلقاته ومشاغله.
هذا جزءٌ من كيانه الحياتي ومهنته الفنية. استعادة نتاجه كلّه لحظة وفاته، صعبة. وفرتها تُساوي بين أفلامٍ راسخة في ذاكرة السينما ووجدان كثيرين، وعناوين تميل كثيراً إلى التجاري والعادي والعابر. رحيله دافعٌ إلى تساؤل عن مغزى قبوله أعمالاً في نمطٍ غير متلائم وسيرته. تُحَيَّد تجربته مع ستيفن سبيلبيرغ، أكثر الهوليووديين مزجاً سينمائياً بديعاً بين التجاري والفكري والجمالي والتحريضي على التأمّل في راهن وماضٍ ومقبل من الأيام ("تقرير الأقلية"، 2002). لكنّ انغماسه في أفلامٍ تتناقض ومفردات تمثيله يحثّ على محاولة فهم سبب ذهابه في الاختبار إلى جهة أخرى. مشاركاته في الجهة الأخرى عديدة، لكنّها لن تحول دون هواجس تضع مشاهدي أفلامه أمام روائع الفنّ السابع، الذي يصنع جزءاً منها.
يصعب قبول اختباراته التمثيلية في أفلامٍ أقلّ أهمية سينمائية من نتاجاته الأجمل، وإنْ يجد تحليل نقدي فيها انعكاساتٍ لتساؤلات آنيّة، ولانفعالاتٍ مرتبطة بذاتٍ وروحٍ وقلاقل. عودته إلى زمن سابق على الحضارة الحديثة، في "كونان البربريّ" (1982) لجون ميليوس، محاولة استكشاف أنماطٍ حياتية بتساؤلاتها المختلفة. يبدأ الفيلم بقولٍ لفريدريك نيتشه (ما لا يقتلنا، يجعلنا أقوى)، كأنّ القول دعوة استباقية إلى تعاملٍ سوي مع فيلمٍ، بطله أرنولد شوارزينيغر وعضلاته، وإنْ يكن هذا قبل تحوّل شوارزينيغر إلى نجم أفلام حركة وتشويق. مشاركته في إحدى الحلقات السينمائية لـ"جيمس بوند"، عام 1983 ("لا تقل أبداً مرّة أخرى" لإرفن كيرشنر) إضافة إلى الفيلم لا إليه شخصياً. حضوره في "مطاردو الأشباح 2" (1990) لإيفان رايتمن يُنسَى لشدّة التبسيط السينمائي في فيلمٍ يستعين بالخيال العلمي لتسلية جمهورٍ محتاجٍ إلى تسلية عابرة. انتقاله من بدايات شوارزينيغر إلى إحدى محطات سيلفستر ستالوني، مع "القاضي دْرَد" (1995) لداني كونان، أشبه باستراحةٍ تتّخذ من الصناعة السينمائية حيّزاً لها. مع Rush Hour بجزئه الثالث (2006) لبْرَت راتنر، و"روبن هود" (2010) لريدلي سكوت، و"حرب النجوم، الحلقة 7: يقظة القوّة" (2015) لجي. جي. أبرامز، لن يتبدّل شيءٌ كثيرٌ، ولن يكون ماكس فون سيدو مؤثّراً فيها، ولن تكون هي إضافة له.
هذا لا يلغي امتلاك فيلمي سكوت وأبرامز مفرداتهما الفنية الباهرة، وأسئلتهما المُكمِّلة لسلسلة جورج لوكاس (حرب النجوم)، والمنفتحة مجدّداً على مفاهيم الشرف والصراع الطبقي والحروب من أجل حرية وكرامة، بحسب تصوّرات سكوت (روبن هود). المسألة كامنةٌ في سبب اختيار ماكس فون سيدو سيناريوهاتٍ كهذه، في محطات مختلفة من سيرته المهنية، وبعضها لاحقٌ لروائع سينمائية، له دورٌ في صُنعها: أهي حاجةٌ إلى عملٍ، أو رغبةٌ في الاستمرار في العمل، أو قناعةٌ بأنّ التمثيل في أفلامٍ كهذه تمرينٌ مطلوبٌ للحفاظ على نضارة المهنة وحيويتها، من دون أنّ يهتمّ الممثل بالقيم الدرامية والجمالية والفنية؟
لا إجابات.
رحيل ماكس فون سيدو يوقظ في المرء شغف مُشاهدة أخرى لأفلامٍ تُعتَبر ركائز للفنّ السابع، بأصالته وهواجسه ومنزلقاته ومشاغله.