الثورات السوريّة المتنوّعة

18 مارس 2016
مظاهرات سورية GETTY
+ الخط -
في البدء كان التناقض مجرّداً وبسيطاً، شعار أنصار النظام السوري "الله سوريا بشار وبس"، يقابله شعار "الله سوريا حرية وبس" الذي هتف به متظاهرون. ومع إزاحة ماهو مشترك بين الشعارين، يبقى لنا بشار والحرية كطرفي نقيض، يمثل كل منهما، مطلباً لجماعتين سوريتين على شفا التصادم والاحتراب. ولكن إذا كان "بشار" شخصاً محسوساً ومعرّفاً، مما يسهّل على فريقه التوحد والاندماج ضمن تراتبية تنتهي عنده كرأس لها، فقد كانت "الحرية" مفهوماً فضفاضاً، يحتمل تأويلات شتى، ويعكس تباينات وخلافات ستتعزز طوال فترة المنازلة، وانتقالها من طور السلمية إلى العسكرة، وتغيّر معادلة محكومين في مواجهة حاكم، إلى حكّام صغار في مواجهة بعضهم البعض من جهة، وكل منهم في مواجهة الحاكم الأساسي من جهة أخرى. كانت الرغبة بإسقاط النظام هي فقط ما يوحد المحكومين المتمردين، ويفرقهم كل ما دون ذلك، وقد حاولت قوى الثورة في بداية الحراك الشعبي، تأجيل استحقاق الاختلاف، عبر طرح شعارات عامة، يصعب رفضها، كشعار "الشعب السوري واحد"، والترويج أن مستقبل سورية سيقرره شعبها عبر صندوق الاقتراع، وكانت النوايا صادقة، ولكنها لم تكن كافية. فالثورة السورية وخلافاً للتونسية والمصرية، فشلت في الحسم السريع، وبالتالي في تدوير مشكلات العقد الاجتماعي السوري الجديد، لمرحلة ما بعد إسقاط النظام، بل أضحت مطالَبة بحل الخلافات والتشابكات المزمنة في وعي السوريين، ومسؤولة بنظر خصومها عن التفجر العنيف لبعضها!.

ولكن بعض أهل الثورة أصروا على المكابرة، والزعم أن سبب هذه المشاكل وعلّة وجودها هو النظام، وستنتهي بزواله، غير أن عجز أي قوة ثورية وازنة عن طرح خطاب وطني جامع، يوحد السوريين، مع وجود قوة عسكرية تحميه، أو حتى قبوله كمرجعية من قبل التشكيلات المقاتلة، كان جليّاً. فالأسلمة والخطاب الجهادي كانا أضمن للكتائب المقاتلة، سواء من حيث جذب التمويل، أو استقطاب العناصر. والخطاب الإسلامي الحماسي، لم يكن ليشكل عامل إجماع وطني في بلد متعدد الملل والأهواء.


وإذْ يصحُّ القول، بأنّ الثورة بريئة من خلق هذه المشاكل، فالحق أيضاً، أنها لم تكن كلها من اختراع النظام، بل هي بشكل من الأشكال، نتاج التركة العثمانية وما تلاها. ويشخص حازم صاغية وطأتها على الدولة السورية الناشئة من الاستقلال عن الفرنسيين، كاتباً: "الجمع بين دمشق وحلب، وبين المدن والأرياف، وبين المدنيين والعسكريين، وبين العرب السنة والأقليات الدينية أو المذهبية أو الإثنية، بدا من قبيل جمع الماء إلى النار، وكان يحفّ بالتناقضات هذه جميعاً، ضغط العشائر الثقيل إلى الحياة المدينية الناشئة".


وإذ كان النظام، لم يخترع هذه المشاكل، غير أنّه عمل عبر عقود حكمه على تجذيرها، واللعب عليها كمصدر تخويف للسوريين من بعضهم البعض. فمع تدمير شبكات الأمان الاجتماعي، ومؤسّسات امتصاص الصدمات، من أحزاب ونقابات ووجاهات محلية وصحافة حقيقية، بقي وحده الطرف القادر على إدارة النزاعات واللعب بالتوازنات، بل ونقل تلك السياسة للإقليم، وخصوصاً إلى لبنان.

وهكذا سار في المظاهرات الأولى سوريون جنباً إلى جنب، بأحلام مختلفة، فالبعض كان يرى النظام مذهبياً ويريد حكم الأكثرية، والبعض يراه قومياً ويريد حقوقه القومية، والبعض يريد علمانية حقيقية لا شكلانية.
وإذا كانت المظاهرات تحت ذات العلم في البداية، فتدريجياً وبالتوازي مع العسكرة، ظهر علم الاستقلال كتمايز لجمهور الثورة عن جمهور النظام، لتعقبه رايات إسلامية، تمايز أنفسها عن الخطاب الوطني، فأعلام صفراء تبرز مطالب قومية كردية. وأمتد الأمر للمصطلح أيضاً، فمن ثورة مقابل أزمة، إلى الجهاد في بلاد الشام إلى "روج أفا".


المساهمون