"بفضل الله" لفرنسوا أوزون: قوّة الصمت ومداه

20 فبراير 2019
"بفضل الله": توثيق سينمائي لقصّة حقيقية (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
دائمًا، هناك جديد ما لدى المخرج الفرنسي فرنسوا أوزون (1967). ببراعة، يُجيد تغيير جلده مع كلّ عمل. في الفترة الأخيرة، بات يُنجز فيلمًا كلّ عام. "فرانتز" مثلاً، فيلمه ما قبل السابق والمُنجز بالأسود والأبيض، لم يُلفت الانتباه كثيرًا إليه، عند عرضه في المسابقة الرسمية للدورة الـ73 (31 أغسطس/ آب ـ 10 سبتمبر/ أيلول 2016) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي"، رغم جودته. "العشيق المزدوج" لم يفز بجوائز عند عرضه في المسابقة الرسمية للدورة الـ70 (17 ـ 28 مايو/ أيار 2017) لمهرجان "كانّ"، رغم تميّزه بصريًا وأدائيًا وإخراجيًا. لكن "مهرجان برلين السينمائي" أنصف جديده "بفضل الله" (2019)، مانحًا إياه جائزة "الدب الفضي ـ لجنة التحكيم الكبرى"، في ختام الدورة الـ69 (7 ـ 17 فبراير/ شباط 2019). 

بصرف النظر عن طبيعة "الجديد"، الذي يقدّمه أوزون في كلّ فيلم، فالمؤكد أنّ الحِرفية الإخراجية، والتمكّن من الموضوع، ورسم الشخصيات، أساسيات مشتركة في أفلامه كلّها. موضوع "بفضل الله" لم يأتِ من عدم، فالجميع يعلمون الحكاية، أو يعرفون الكثير عن الاعتداءات الجنسية للرهبان على الأطفال، في الكنيسة الكاثوليكية، كما قُدِّمت تلك القضية في أكثر من فيلم. المثير للانتباه أن تناول أوزون للقضية فيه جديد يُذكر، شكلاً ومضمونًا، وهو التعاضد والتآزر الواضحين لأبناء الضحايا وزوجاتهم، اللذين أبرزهما المخرج، إلى جانب تفهم هؤلاء لما حدث؛ في مقابل إدانة واضحة للغاية للآباء، الذين آثروا الصمت أو النفي أو الإنكار أو التكتم، عندما باح لهم الضحايا بما تعرّضوا له. دائمًا الضحية امرأة، والزوج أساسًا يكون أول المُساندين والداعمين. هنا، انقلبت الصورة، فظهر الجديد: المرأة داعمة ومساندة، والزوج ضحية. لاحقًا، يتبيّن أن لا رجل أو امرأة، بل ضحية، إنْ تعلّق الأمر باغتصاب أو بتحرّش، أو بغيرهما من عنف وانتهاك يقعان على الجسد.

في الشكل، هناك جدل كبير. البنية روائية بامتياز، تتخلّلها مسحة تسجيلية ملحوظة، غير متعلّقة بأرقام وإحصائيات. بل في طريقة العمل، من حيث الاستقصاء والبحث عن الشخصيات، ثم دفعها إلى التحدّث. هذا كلّه في إطار فيلم كلاسيكي البناء، ودراما قوية ومشوّقة. الأدقّ أن الموضوع فرض لغته، فاحترم أوزون قوّة هذا الفرض، تاركًا القوّة تقود الفيلم، مع احتفاظه بالتوجيه والاختيار والبحث الرصين والدقيق. الجهد المبذول من أوزون في جمع المادة اللازمة لكتابة سيناريو كهذا، شديد البروز.

مع نهاية الأحداث، يظهر أن الموضوع لا يزال قيد التحقيق القضائي. لفترة طويلة، انشغل كثيرون بقضية الأب الفرنسي برنار بيرينا، المتّهم بارتكاب حالات كثيرة من التحرّش والاعتداء الجنسيين على نحو 80 طفلاً في أبرشية مدينة ليون، خلال 30 عامًا، بدءًا من ثمانينيات القرن الماضي. المحزن أن الأب بيرينا، بعكس تخوّفات الضحايا، اعترف باقترافه تلك الآثام، وطلب، عند مواجهته مع بعض ضحاياه، أن يسامحوه عما بدر منه. اعترف أيضًا بعشقه للأطفال وضعفه أمامهم، وبمصارحته المسؤولين الكنسيين بالأمر أكثر من مرّة، كي يجدوا له حلاً أو علاجًا. هذا يعني أن السلطات الكنسية عالمةٌ بسلوكه. ولأن لا عقاب لكاهن بحسب قوانين الكنيسة ولا سجون، تمّ الاكتفاء بعزله من منصبه الديني عام 2015. التحقيقات التي تجري الآن، قضائية. الضحايا، بعد صدمتهم من سلوك الكنيسة وضعفها وتسترها على جرائم كهذه، توجّهوا إلى القضاء، وهم ينتظرون حكمه في مارس/ آذار المقبل.

كبطله ألكسندر (ملفيل بوبو)، لم يرغب فرنسوا أوزون توجيه ضربة مباشرة للكنيسة، أو تعريتها أو الصدام معها. ألكسندر المؤمن شديد التديّن، لكنه ـ بعد صمت طويل لسنين مديدة، وإنجابه 5 أطفال ـ لم يستطع الصمت أكثر من هذا عن الألم الحارق. فالعذاب لم يخفّ، ولم يُنسَ. ما فجَّرَه، معرفته صدفة بأن الأب بيرينا لا يزال يمارس مهامه الدينية المعتادة، ويتواصل مع الأطفال. مشاهد مواجهة ألكسندر للأب بيرينا بالغة الصدق والجمال. كذلك خشيته على أولاده، وحثّه ضحايا آخرين على القول، وحماسته لتصميم الموقع الإلكتروني، وللمضي في القضية حتى النهاية، رغم أنه لا يحق له ـ قضائيًا ـ إقامة دعوى، بسبب انقضاء 30 عامًا على الفعل الجُرميّ بحسب القانون الفرنسي. ذات ليلة، يسأله ابنه الأكبر: "ألا تزال مؤمنًا؟". يصمت ألكسندر. لا يجيب. ثم ينهي أوزون المشهد سريعًا.

عمدًا، ينسينا أوزون ألكسندر بشكل تدريجي، بتقديمه شخصية بالغة الحيوية والحماسة، تعرّضت للأذى البدني نفسه. فرنسوا (دوني مينوشي) شديد الروعة. شخصية من لحم ودم، ومفعمة بالحياة والتوتر والغضب. في البداية، يرفض خجلاً مطلب ألكسندر. لكنه، لاحقًا، سيكون أبرز المتبنين للقضية وأشرسهم، وأهم المدافعين عنها، وأكثرهم تحفيزًا للآخرين. على نقيض ألكسندر، فإن فرنسوا ملحد. لكنه كألكسندر مهتمّ بتحقيق العدالة ومعاقبة المجرم، بصرف النظر عن الدين والكنيسة.

إلى ألكسندر (صاحب الشرارة الأولى)، وفرنسوا (قائد المسيرة)، يقدّم أوزون 5 شخصيات أخرى يتّخذها كنماذج، راصدًا تأثير ما حدث على حياتها، فتتمحور الأحداث حولها. إحداها تشكّ في أن ما تعانيه جنسيًا ناتجٌ ممّا حدث في الصغر. نماذج اختارها أوزون من بين أولئك الخارجين عن صمتهم، لا الحالات كلّها. في بداية الفيلم، قدَّم شخصية مغايرة، من الصامتين والهاربين وغير الراغبين في التكلّم.

قضية "بفضل الله" مرتبطة بإبراز قوّة الصمت ومداه. صمت الصبية متأتٍ من ضعف وخوف ونقص في الخبرة وعدم وعي. أما القوّة، فتظهر في نطقهم الآن، وبوحهم وكشفهم الإرادي عمّا حدث رغم تأخّرهم عن ذلك، وفي العواقب الأسرية والاجتماعية. قوة أفضت في النهاية إلى محاكمة الأب برنار بيرينا، وأيضًا المتسترّ عليه هذه الأعوام كلّها، الكاردينال بارباران. جرمه لا يقلّ حدّة عن جرم بيرينا، وهو يتفوّق عليه كذبًا وتدليسًا. لذا، لم يجد فرانسوا أوزون أفضل من جملة بكلمتين عنوانًا لجديده هذه، أجاب بها عن سؤال أحد الصحافيين، في مؤتمر صحافي منعقد لتوضيح الكنيسة ملابسات ما حدث: كيف لم تصل القضية إلى ساحات القضاء، وظلّت طي الكتمان هذه المدة كلّها؟ أما الجملة بكلمتين فهي: "بفضل الله".
المساهمون