يتأسس المشروع الغنائي عند الفنانة الفلسطينية ريم بنّا (1966-2018)، التي مرّت هذه الأيام الذكرى الثانية لرحيلها، على خاصية الخرق والمُجاوزة التي تكتنف أعمالها الغنائية وتطبعُها بميسم التجديد والتفرد، بما يجعل أغانيها تأخذ مساراً غنياً ومتنوعاً، تعمل بشكل محايث على الإقامة في تخوم الجسد والتاريخ والقصيدة وفلسطين، فالأغنية لديها تتخذ أبعاداً فنية وجمالية ونضالية وتأريخية لمتخيّل الوجدان الفلسطيني، فهي قادرة برهافة ذائقتها الفنية على تملك اللحظات الصغيرة الهاربة والمُنفلتة من قبضة المأساة الفلسطينية اليومية.
تعمل بنّا على تدوير الكلمة، بطريقة تُصبح فيها ذات إيقاع ساحر في أذن المُستمع، وخاصة أنها عملت جاهدة منذ تسعينيات القرن المنصرم على النهل من معين ملامح الثقافة الفلسطينية التراثية ونصوصها المنسيّة، وضخ دماء جديدة في شرايينها وأوردتها، بطريقة عصرية تستجيب للحساسية الفنية المعاصرة عبر آلات وإيقاعات حديثة مختلفة، جعلت على أثرها الأغنية الفلسطينية تأخذ بعداً كونياً، لكنها في الوقت ذاته، لا تذوب في ثقافة الآخر وعوالمه. هذا الهاجس الفني المتمثل في رفع الأغنية الفلسطينية إلى العالمية، شكّل رهاناً كبيراً في المشروع الغنائي لدى ريم بنّا، بالرغم من الصعوبات الوسائطية، التي قد تعترض سير وتقدم مجرى الإنتاج والتوزيع الموسيقي العربي، والمُساهمة في إنجاح هذا العُبور والمُثاقفة مع الإنتاج الموسيقي الغربي، استطاعت تحقيق بعض من هذا الحلم المُشتهى من خلال أعمال مُشتركة مع فرق عالمية، حرصت ريم بمعيتها على جعل الأغنية الفلسطينية المعاصرة تظل حاضرة في الوجدان الغربي، وقد حصلت بموجب ذلك على عدة جوائز رفيعة، منها سفيرة السلام بإيطاليا وجائزة ابن رشد للفكر الحر سنة 2013.
غير أن مفهوم المُجاوزة عند ريم بنّا، لا يأخذ طابعا تعسفيا في حق التراث الموسيقي العربي القديم، بقدر ما يعني الفحص والمساءلة، ثم إعادة التركيب لكافة الرموز والعلامات والصور الشعرية القديمة القادرة على مزجها وتبيئتها داخل قالب موسيقي، تمزُج في طياته وطبقات ألحانه الخصائص الفنية والجمالية التراثية المُشكلة للهوية الفلسطينية وإمكانية توليفها مع إيقاعات موسيقية غربية، الأمر الذي جعل من تجربة ريم بنّا الفنية تبدو في تمثلاتها الحسية وكأنها تاريخٌ للجسد والقصيدة والوطن والهوية الفلسطينية.
كما نُلاحظ ونستمع من خلال ألبوماتها الغنائية، خاصة في "مرايا الروح" و"لم تكن تلك حكايتي"، أن مفهوم الهوية لديها ينفلت بدوره من التقوقع حول جسد فلسطين، لتنحت لها مساراً متعدداً، يمتد إلى الغوص في الهوية العربية بأكملها، بل وتمتد وتخترق أحيانا هذه "الهوية العربية" صوب جغرافيات أخرى، تعمل على الإقامة في مُنجزها الفني، لكن من دون أن تنتمي إليها، ما يجعل من أغانيها تضرب بقوة في صميم الحداثة الموسيقية من دون استعارة لسان الآخر (الغرب) في التعبير عن وجعها اليومي.
بالرغم من أن ريم بنّا فطنت مبكرا إلى أن مفهوم الهوية داخل الموسيقى متغير، ومن يعتقد أنها تابثة فهو واهم، بحكم الرجات والتصدعات التي تطاول المفهوم، نظراً لأن طبيعة و"خصوصية" الموسيقى العربية، قد تلاقحت في فترات متباينة مع أنماط إيقاعية ومرجعيات فنية أخرى غير عربية، لذلك يتبين لنا من خلال أعمالها، أنها استشعرت خطورة التشبث بهذه الهوية المتصدعة والملغومة، فعملت على البحث والارتحال بهذه الهوية داخل سجلّها الموسيقي ومزجها بتراث الآخر الفني، لكن هويتها الفلسطينية لا تذوب في جسد الآخر، بقدر ما تظل بارزة في جسده كوعي وعلامة وثقافة وجرح ومقاومة وحلم يتطلع صوب الحرية.
إن الأصوات الغنائية الجديدة في حجم ريم بنّا، ممن تتوفر على مشروع غنائي أصيل، بدأت اليوم تندثر من المشهد الفني العربي الآخذ في التسطيح والابتذال والاجترار، بعد أن كانت الموسيقى العربية تحتل مكانة كبيرة ومرموقة في كتابات وآذان الغرب، أضحت اليوم لا تمثل شيئاً حتى لدى أهلها، إذْ نادرا ما نعثر ونتلمس ملامح لأفق مشروع غنائي متأصل في التربة العربية ومناخاتها الجمالية المُتعددة من سحر الكلمة وشذى اللحن، لأن الموسيقى ليست مجرد هوى، كما قد يُخيّل إلينا للوهلة الأولى، فهي تتجاوز البعد السطحي المتمثل في الترفيه عن النفس، لتغوص في النسيج التاريخي والاجتماعي للحضارات وتنطبع في ذاكرتها كمكون جمالي يُغذي الحاضر فنيا ويُعطيه ميسما للاستمرار. وهذا الأمر انتبهت اليه ريم البنّا، حين جعلت من أغانيها تضرب في عمق الكلمة وجذورها بين الماضي والحاضر، محاولة خلق وشائج لغة أقرب إلى البوح، بين آلات العزف المختلفة والصوت، لكنها تنجح في الأخير، في خلق موسيقى أقرب إلى النهر في جريانه، يجمع شعرية الكلمة بسحر العزف وفتنة الحاضر بدفء الماضي.
وفي الوقت الذي تخاذل فيه مثقفون عرب إبان الموجة الأولى من الربيع العربي، خرجت صاحبة "صوت المقاومة" ريم بنّا، لتظهر للعالم أنها أكثر من مُغنية ومُلحنة، عاملة على توجيه نقدها الساخر للأنظمة العربية القمعية وجبروتها، متجاوزة القضية الفلسطينية هذه المرة، صوب أفق مفتوح، يهُم مناطق عربية أخرى، شهدت غليانا سياسيا واجتماعيا.
إن موقفها الشجاع إبان الربيع العربي، يُسجله التاريخ، في كونها فنانة ملتزمة بقضايا الإنسان وكرامته وحريته في سراديب الحياة العربية المُظلمة، كما لو أنها حاولت تذكيرنا بمرارة الواقع الذي نعيش فيه، من ثم، أهمية التجربة الفنية لديها في تجميل حياتنا اليومية الرتيبة، ليس للاستمتاع فقط، بل لجعلها وقودا في خدمة الثورة على مختلف أنواع السُلطات السياسية، التي تُحاول حرمان الإنسان من حقوقه وملذاته البسيطة في العيش والتعبير عن مكنوناته الداخلية سياسيا وثقافيا وفنيا، وهي مطالب مشروعة لكل إنسان.