الحرية كانت العنوان الرئيس لثورة السوريين. أسوة بمن سبقهم من أشقائهم العرب في تونس ومصر واليمن وليبيا، وبعد عقود أطبقت على مرّها دكتاتوريّات قاهرة على مقدّرات الشعوب وتطلّعاتها المعيشية والسياسية، سقطت أنظمة وبقيت أخرى بالحديد والنار. بيد أن حريّة ما بعد الربيع صار لها تأويلات ومعان لم تعد بالضرورة محل إجماع بين من كانوا في البدايةً يَنشدونها ويهتفون باسمها.
حريّة المرأة على وجه الأولوية، باتت تُثير رُهابَ شريحة أوسع من المهجر السوري. كان لأغنيّة رثّة فنياً نشرها أحدهم على اليوتيوب أن تمرّ مرور "الكرام"، لولا أنها، وبدءاً بعنوانها: "يا ريتك بالبحر غرقتي"، تُسجّل حالةً من التهديد، وصلت حدَ التحريض، أخذ يحسّ بها سوريون إزاء فُرص تمكين السوريّات، بَداهةً، نتيجةَ اللجوء والإقامة في مجتمعات حرّة بالنسبة والقياس، وديمقراطيّة بالأساس.
ليست المخافة من الاشتباك مع البلد المُضيف وحدها ما يستدعي الإضاءة والإشارة. وإنما مدى عمق وأصالة مفهوم الحرية بين السوريين، وحقيقة التوافق حولها. كثيراً ما تستوعب الحرية، كغيرها من المفاهيم المُنشأة اجتماعياً social constructs عديدَ التأويلات، إلا أن تساوي المرأة والرجل بالإنسانية والاحترام ليس باجتهادٍ، وإنما مبدأ، من دونه لن يَعبُرَ أي شعبٌ إلى المستقبل.
لطالما كان المُجتمع السوري ثُنائي المنظومة السلطوية. هناك المنسوب العلوي الظاهر المُتمثّل بالنظام السياسي والمنسوب التحتي الباطن المحتكم إلى المُعتقد الديني والعرف الاجتماعي. أتت دكتاتوريات ما بعد الكولونيالية بشموليّات علمانية مستوحاة من الغرب طُبّقت عمودياً على الناس. أفقياً بالمقابل، بادل الناس منظومة الدولة السلطوية بأخرى تقليدية موازية سيّرت قرارةً شؤونهم الخاصة.
تعايش السوريون طويلاً، شعباً ونظاماً، مع تلك الثنائية. لم تُمانع السلطة السياسية في استبداد اجتماعي مواز، طالما أنه يُعزّز القمع ولا يمس الحكم. بينما رأى الناس في العُرف مصدر هوية ثقافية في وجه نظامٍ غرّبهم عن الدولة ومؤسساتها. حل السوريون اليوم في المهجر بمنأى عن استبداد الدولة. إلا أنهم احتفظوا بمنظومة الاستبداد التقليدية، يواجهون بها نمطاً جديداً من الاغتراب.
اقــرأ أيضاً
تتحدث الأغنية، كما يُفهم، عن طلاق بين زوجين لاجئين سورييّن بطلب من المرأة، بعدما مُكّنت بموجب القوانين الغربية وتحررت من سلطة الرجل الاجتماعية والاقتصادية. يتمنّى الطليق لو أن أمواج المتوسط ابتلعت الزوجة ولم تكمل طريق اللجوء. يتّهمها بالتخلّي عن قيم المُجتمع الأصلية، ويذمّ يد العون التي تمدّها الحكومة المُضيفة لإعالة الأم وطفلها وبالتالي تكفل لهما استقلالهما عن الأب.
حالٌ تدعو إلى الرثاء تعكسها الأغنية، لأزواج باتوا مهددين بخسارة امتيازات السلطة على زوجاتهم كانت قد منحتها لهم منظومة الاستبداد التقليدية. المساواة في الحركة وتحقيق الذات جعلت من زوجةٍ تفوق زوجها موهبةً ترتقي في مجال العلم والعمل. العنف اللفظي والجسدي بحقها وبحق أبنائها جريمة يُعاقب عليها قانونٌ مدني لن يساير أو يتواطأ بعد الآن مع سيادة مفترضة للرجل.
تُسمع في الأغنية مُسمّيات إدارية وحكومية بالألمانية عُرّبت وُسوْرِنت، تعكس قاموس الحياة الجديدة في المُغترب السوري. "الجوب سنتر"، أي وكالة التشغيل التي تُعيل أسر اللاجئين لحين تأهيليها بغية إلحاقها بسوق العمل. "الكندر غيلت"، راتب إعالة الأطفال الشهري. جميعها وغيرها امتيازات تمنحها دول الرفاه، في حين كان الأب والأخ والزوج في السابق المُعيل الحصري والقسري.
في مسعى التكيّف مع الواقع الجديد، تعيش منظومة الاستبداد التقليدية داخل المجتمع السوري المهاجر صراع هوية تتصدّره المرأة. ترى فئة بين اللاجئين السوريين في الحياة الأوروبية تهديداً ثقافياً يستدعي النكوص نحو المحافظة والتعلّق بالعادات والتقاليد. في المُقابل، سيدفع الواقع ذاته بالمرأة لتقود التحرر من إرث الاستبداد، مساهمةً في الوقت نفسه في تمكين وتحسين الحياة في البلد الجديد.
المشهد ليس وردياً دوماً بالضرورة. على الأخص في المدى القريب والمتوسط. ما فتئت وسائل الإعلام للدول المُضيفة تُسلّط الضوء على مآسي نساءٍ سوريّات سُلبن أطفالهنّ كيداً وانتقاماً. رجالٌ همّوا بالعودة مُخيّرين زوجاتهم: إما مرافقتهم أو حرمانهن من أولادهنّ. روايات تُغذي المُخيّلة الجمعية لدى الرأي العام الغربي بسرديّة استحالة تكيُّف الشرقي مع الحداثة وحتمية رفضه لقيمها ومبادئها.
تاريخياً، في المُجتمعات التي عانت حروباً دمرت العمران والتهم أتونها مئات الألوف من الشُبّان، لعبت المرأة دوراً مُتقدّماً في إعادة البناء الاجتماعي والاقتصادي. ألمانيا بعد الحربين العالميّتين، وسائر الدول الأوروبية نهضت بسواعد الأرامل. لذا، فإن استقلال المرأة وتعزيز دورها قُدماً في المجال العام، ناهيك عن الأسري الخاص، إنما هو مسار تاريخي صاعد ومضطرد للمُجتمعات الحديثة.
أي نزعة رجعية تتجه نحو قمع الأنثى وإدراجها قاعَ هرميةٍ يترأسها الذكر هي عكسٌ لسمار التاريخ. لا يمكن تحقيق التنمية ولا بناء المؤسسات الديمقراطية في مُجتمعات لا تساوي بين الجنسين في التعليم والتشغيل. وعليه، حتى لو قُوّض الاستبداد السياسي، فإن الانتقال الديمقراطي لن يتحقق من دون تقويض منظومة الاستبداد التقليدية التي تميّز ضد النساء وتغلّب عليهن الرجال.
اقــرأ أيضاً
من هذا المنطلق، لا يمكن تجزئة الحرية. لا يمكن الاستفادة من أجواء الأمن والاستقرار التي تؤمنها دول اللجوء، وفي الوقت ذاته ممارسة القهر والقمع داخل البيوت وخلف الستائر. لا يمكن استكمال تحرير المُجتمع السوري من الطغيان، إن طغى الذكور على الإناث بحجة الحفاظ على الهوية. الحرية ليست ممكنة إلا عندما يكون بإمكان المرأة أن تقرر بنفسها ما ترتديه، حتى لو اختارت الحجاب.
من هنا تكمن خطورة الرسالة التي تحملها الأغنية، على الرغم من رداءتها وسذاجتها، ناهيك عن نبرة الضعف واليأس التي تُلتقط من مخارجها. هي في الواقع لسان حال قطاع واسع لا يُمثّل المهجر السوري برمته، بيّد أنه ماثل وقائم بمنظومة استبدادية لن تُستكمل الثورة مستقبلاً إلا بالتصدّي لها أولاً. وإلا، فلن تكون المرأة وحدها الضحية الغارقة في عباب البحر، إنما ومعها الحرية.
ليست المخافة من الاشتباك مع البلد المُضيف وحدها ما يستدعي الإضاءة والإشارة. وإنما مدى عمق وأصالة مفهوم الحرية بين السوريين، وحقيقة التوافق حولها. كثيراً ما تستوعب الحرية، كغيرها من المفاهيم المُنشأة اجتماعياً social constructs عديدَ التأويلات، إلا أن تساوي المرأة والرجل بالإنسانية والاحترام ليس باجتهادٍ، وإنما مبدأ، من دونه لن يَعبُرَ أي شعبٌ إلى المستقبل.
لطالما كان المُجتمع السوري ثُنائي المنظومة السلطوية. هناك المنسوب العلوي الظاهر المُتمثّل بالنظام السياسي والمنسوب التحتي الباطن المحتكم إلى المُعتقد الديني والعرف الاجتماعي. أتت دكتاتوريات ما بعد الكولونيالية بشموليّات علمانية مستوحاة من الغرب طُبّقت عمودياً على الناس. أفقياً بالمقابل، بادل الناس منظومة الدولة السلطوية بأخرى تقليدية موازية سيّرت قرارةً شؤونهم الخاصة.
تعايش السوريون طويلاً، شعباً ونظاماً، مع تلك الثنائية. لم تُمانع السلطة السياسية في استبداد اجتماعي مواز، طالما أنه يُعزّز القمع ولا يمس الحكم. بينما رأى الناس في العُرف مصدر هوية ثقافية في وجه نظامٍ غرّبهم عن الدولة ومؤسساتها. حل السوريون اليوم في المهجر بمنأى عن استبداد الدولة. إلا أنهم احتفظوا بمنظومة الاستبداد التقليدية، يواجهون بها نمطاً جديداً من الاغتراب.
تتحدث الأغنية، كما يُفهم، عن طلاق بين زوجين لاجئين سورييّن بطلب من المرأة، بعدما مُكّنت بموجب القوانين الغربية وتحررت من سلطة الرجل الاجتماعية والاقتصادية. يتمنّى الطليق لو أن أمواج المتوسط ابتلعت الزوجة ولم تكمل طريق اللجوء. يتّهمها بالتخلّي عن قيم المُجتمع الأصلية، ويذمّ يد العون التي تمدّها الحكومة المُضيفة لإعالة الأم وطفلها وبالتالي تكفل لهما استقلالهما عن الأب.
حالٌ تدعو إلى الرثاء تعكسها الأغنية، لأزواج باتوا مهددين بخسارة امتيازات السلطة على زوجاتهم كانت قد منحتها لهم منظومة الاستبداد التقليدية. المساواة في الحركة وتحقيق الذات جعلت من زوجةٍ تفوق زوجها موهبةً ترتقي في مجال العلم والعمل. العنف اللفظي والجسدي بحقها وبحق أبنائها جريمة يُعاقب عليها قانونٌ مدني لن يساير أو يتواطأ بعد الآن مع سيادة مفترضة للرجل.
تُسمع في الأغنية مُسمّيات إدارية وحكومية بالألمانية عُرّبت وُسوْرِنت، تعكس قاموس الحياة الجديدة في المُغترب السوري. "الجوب سنتر"، أي وكالة التشغيل التي تُعيل أسر اللاجئين لحين تأهيليها بغية إلحاقها بسوق العمل. "الكندر غيلت"، راتب إعالة الأطفال الشهري. جميعها وغيرها امتيازات تمنحها دول الرفاه، في حين كان الأب والأخ والزوج في السابق المُعيل الحصري والقسري.
في مسعى التكيّف مع الواقع الجديد، تعيش منظومة الاستبداد التقليدية داخل المجتمع السوري المهاجر صراع هوية تتصدّره المرأة. ترى فئة بين اللاجئين السوريين في الحياة الأوروبية تهديداً ثقافياً يستدعي النكوص نحو المحافظة والتعلّق بالعادات والتقاليد. في المُقابل، سيدفع الواقع ذاته بالمرأة لتقود التحرر من إرث الاستبداد، مساهمةً في الوقت نفسه في تمكين وتحسين الحياة في البلد الجديد.
المشهد ليس وردياً دوماً بالضرورة. على الأخص في المدى القريب والمتوسط. ما فتئت وسائل الإعلام للدول المُضيفة تُسلّط الضوء على مآسي نساءٍ سوريّات سُلبن أطفالهنّ كيداً وانتقاماً. رجالٌ همّوا بالعودة مُخيّرين زوجاتهم: إما مرافقتهم أو حرمانهن من أولادهنّ. روايات تُغذي المُخيّلة الجمعية لدى الرأي العام الغربي بسرديّة استحالة تكيُّف الشرقي مع الحداثة وحتمية رفضه لقيمها ومبادئها.
تاريخياً، في المُجتمعات التي عانت حروباً دمرت العمران والتهم أتونها مئات الألوف من الشُبّان، لعبت المرأة دوراً مُتقدّماً في إعادة البناء الاجتماعي والاقتصادي. ألمانيا بعد الحربين العالميّتين، وسائر الدول الأوروبية نهضت بسواعد الأرامل. لذا، فإن استقلال المرأة وتعزيز دورها قُدماً في المجال العام، ناهيك عن الأسري الخاص، إنما هو مسار تاريخي صاعد ومضطرد للمُجتمعات الحديثة.
أي نزعة رجعية تتجه نحو قمع الأنثى وإدراجها قاعَ هرميةٍ يترأسها الذكر هي عكسٌ لسمار التاريخ. لا يمكن تحقيق التنمية ولا بناء المؤسسات الديمقراطية في مُجتمعات لا تساوي بين الجنسين في التعليم والتشغيل. وعليه، حتى لو قُوّض الاستبداد السياسي، فإن الانتقال الديمقراطي لن يتحقق من دون تقويض منظومة الاستبداد التقليدية التي تميّز ضد النساء وتغلّب عليهن الرجال.
من هذا المنطلق، لا يمكن تجزئة الحرية. لا يمكن الاستفادة من أجواء الأمن والاستقرار التي تؤمنها دول اللجوء، وفي الوقت ذاته ممارسة القهر والقمع داخل البيوت وخلف الستائر. لا يمكن استكمال تحرير المُجتمع السوري من الطغيان، إن طغى الذكور على الإناث بحجة الحفاظ على الهوية. الحرية ليست ممكنة إلا عندما يكون بإمكان المرأة أن تقرر بنفسها ما ترتديه، حتى لو اختارت الحجاب.
من هنا تكمن خطورة الرسالة التي تحملها الأغنية، على الرغم من رداءتها وسذاجتها، ناهيك عن نبرة الضعف واليأس التي تُلتقط من مخارجها. هي في الواقع لسان حال قطاع واسع لا يُمثّل المهجر السوري برمته، بيّد أنه ماثل وقائم بمنظومة استبدادية لن تُستكمل الثورة مستقبلاً إلا بالتصدّي لها أولاً. وإلا، فلن تكون المرأة وحدها الضحية الغارقة في عباب البحر، إنما ومعها الحرية.