لم يكن مثل بيرم التونسي في عصره، بل كان نموذجاً يحتذى في الوطنية وتوظيف الكلمة في مسارها الإصلاحي. بدأ حياته الفنية شاعراً بالفصحى ونجح مبكراً في أن يفرض اسمه في مصاف الأدباء المميزين بنقده الاجتماعي اللاذع ونقده السياسي الجارح، في زمن كانت البلاد فيه تحت سطوتين؛ سطوة الحكومة الملكية الإقطاعية الفاسدة، وسطوة الاحتلال البريطاني. ولكن سرعان ما أدرك بيرم أن المجتمع المصري يرزح تحت نير الأمية، وأن الغالبية العظمى من أهله ومواطنيه لن يتمكنوا من قراءة إبداعه؛ فاتجه إلى كتابة الزجل، وكان له ما أراد من الانتشار الواسع بين الناس؛ حتى قال طه حسين: "اخشى على الفصحى من عامية بيرم".
ولد بيرم التونسي، بالإسكندرية، في 23 مارس/آذار 1893م، لأسرة مصرية ذات أصول تونسية. وفي فترة مبكرة عمل في الصحافة، والتقى بسيد درويش وكانا صديقين، وجمع بينهما العديد من الأعمال الوطنية، وألف العديد من الأعمال المسرحية والأوبريتات والأغاني التي قام درويش بتلحينها وغنائها. ومن بينها مسرحية "شهوزاد" وهو اسم مستوحىً من الشهوات المفرطة للعائلة الحاكمة، وأوبريت "دوقة جيرولستين الكبيرة" وهو أوبريت مقتبس من الفرنسية، وهو الذي تضمن الأغنية الشهيرة لسيد درويش: "أنا المصري كريم العنصرين".
ونظراً لمواقفه فقد عانى بيرم التونسي من النفي إلى تونس وفرنسا. حيث عاش في المنفى متنقلاً من بلد إلى آخر لمدة عشرين سنة. إلى أن عاد متسللاً إلى مصر سنة 1938 وظل متخفياً حتى صدر عفو رسمي عنه. وفي تلك الأثناء التقى سراً بأم كلثوم سنة 1940 عن طريق شيخ الملحنين زكريا أحمد، حيث بدأا مشوارهما المشترك في العديد من الأغاني بداية من أغنية "أنا وانت"، ثم غنت له أم كلثوم: كل الأحبة، إيه اسمي الحب، حلم، أنا في انتظارك، الأوله في الغرام، حبيبي يسعد أوقاته، أهل الهوى، شمس الأصيل، الحب كده، القلب يعشق كل جميل، اكتب لي من غير تأخير، البدر أهو نور، أنا ليه أجاسر وأعاتبك، وفي أوان الورد ابتدا حبي، يا قلبي ياما تميل بنظرة، حيرانه ليه يا دموعي، صوت السلام... وغيرها.
وكانت أغنية الآهات صاحبة أطول مدة تصفيق حصلت عليها أم كلثوم من الجمهور بعد انتهاء الحفلة، حيث بلغ التصفيق عشر دقائق مستمرة، أما أغنيته صوت السلام؛ فكانت سبباً في حصوله على ميدالية برونزية من المجلس الأعلى للفنون والآداب سنة 1960. وأثناء حياته وبعد وفاته أصبحت أشعاره منجماً ينهل منه المطربون في أعمالهم الفنية السينمائية والتلفزيونية والمسرحية. فقد غنى له كبار المطربين غير أم كلثوم مثل محمد عبد الوهاب، وفريد الأطرش ووردة الجزائرية وغيرهم.
وقد طبعت الأعمال الكاملة لأغاني بيرم التونسي في أربعة مجلدات، ومن أقواله عن حال الأغنية المصرية: "وقد مُنيت مصر بعدد هائل من المؤلفين الجهلاء الذين تنقصهم حتى الثقافة العامة، والذين يحفظون عدداً من الألفاظ يبدّلونها ويغيرونها كأحجار الدومينو". وقال أيضاً: "الأغنية مدرسة، تستطيع أن تعطينا قيماً سليمة، أو تدس لنا سموماً خبيثة، فهي أخطر أداة للنشر في هذا العصر، والمُحزن أنه لا أحد يدرك أو يقدر خطر الأغنية على الناس، لا المؤلف ولا الملحن ولا المطرب".
وبالرغم من مصرية بيرم التونسي ووطنيته الراسخة ومساندته لقضايا الشعب المصري منذ ثورة 1919 فإنه لم يحصل رسمياً على الجنسية المصرية إلا في عام 1954. وقد رحل بيرم التونسي عن عمر 67 سنة في مثل هذا اليوم 5 يناير/كانون الثاني 1961.