بعد أقلّ من شهرين على احتفاله بعيد ميلاده الـ 103، تُوفي الممثل والمنتج والمخرج الأميركي كيرك دوغلاس. عمره هذا دافعٌ إلى التفكير في كيفية البقاء حيّاً بعد غياب أصدقاء، ورحيل أحبّة، واندثار القدرة على إكمال نهجٍ مهنيّ، يُشكّل نواةَ حياةٍ واكتشافات. عمره هذا تحريضٌ على التأمّل في اشتغالات، بعضها يبحث في شؤون الحياة والموت والحرب والتاريخ والذاكرة والراهن، وهذه كلّها عناوين مفصلية في سيرته المهنيّة، المليئة بتنويعاتٍ، أحدها يضعه في واجهة المشهد: "الوسترن".
عزلته أعواماً مديدة قبل رحيله (5 فبراير/شباط 2020)، المنبثقة من شيخوخة ومرضٍ وعجزٍ عن التفاعل الاجتماعي والعمل السينمائي، رغم توقه الهائل إلى بلاتوهات التصوير، نمطٌ من إعادة اكتشاف أزمنة وانقلابات وحالات. فهو، بعيشه 103 أعوام، مرافق أصيل لمسار تاريخي متعلّق بالقرن الـ 20، وبفنٍّ سيكون كيرك دوغلاس الشاهد الأخير على أحد أجمل فصول سيرته.
لن يكون عابراً وصفٌ يليق به: "مولودٌ مع هوليوود، يكبر كيرك دوغلاس بالأسود والأبيض، ويكافح بالألوان" (ميكاييل نولان، "لو فيغارو" الفرنسية، 6 فبراير/شباط 2020). الإضافة لن تحول دون جمال هذا الاختزال المكثّف لحياة "آخر بطل للعصر الذهبي الهوليوودي". فبعد "كفاحه" بالألوان، يذهب "سبارتاكوس" إلى عزلته شيئاً فشيئاً، مع تنامي ظاهرة التقنيات الحديثة والإنتاجات الضخمة و"الأبطال الخارقين" واشتغالات الكمبيوتر، في سينما يبدو أنّ "فان غوغ" غير متمكّن من التأقّلم معها. والعالم نفسه الذي يُدركه دوغلاس، والمتبدّل بكثرة في فتراتٍ قليلة، غير قادر على مواكبة الغليان الحاصل، فإذا بـ"عوليس" ينسحب، ليس حبًّا في الانسحاب فقط، وليس رضوخاً لوطأة المرض فقط، بل ربما لشدّة الخراب الضارب في أحوال الدنيا.
برحيله، تُستعاد تجاربه المريرة مع الموت، التي يرويها باقتضاب في ثالث ثلاثية سيرته الذاتية، "ضربة حظّي" (ترجمة حرفية للعنوان الإنكليزي My Stroke Of Luck، الصادر بالإنكليزية عام 2002)، مُعدّداً إياها بسلاسةٍ كأنّها غير حاصلة معه، وببساطةٍ تليق بمُعاندٍ للموت وعاشق للحياة، وبسكينةِ مُتصالحٍ مع الذات في الفصل الأخير من رحلته نحو الغياب.
فمنذ بلوغه 5 أعوام (مواليد "أمستردام" في ولاية نيويورك، 9 ديسمبر/كانون الأول 1916)، يختبر كيرك دوغلاس الموت، ويتحدّى فكرة الرحيل، ويتوغّل في أسئلة العيش والعلاقات والخلاص: غرقٌ في بئر؛ نجاةٌ من إصابةٍ بسهمٍ أثناء تصوير مشهدٍ مع والتر ماتاو من The Indian Fighter لأندره دو توث (1955)؛ سقوطٌ من علٍ وارتطام الرأس بصخرة وغيبوبة لـ 5 أيام، أثناء تصوير مشهدٍ مع يول براينر من The Light At The Edge Of The World لكفن بيلّينغتن (1971)؛ تعرّضٌ لدوخة أثناء رقصة مع زوجته آنّ في ملهى ليلي في نيويورك، عام 1989، وسقوط على الأرض، وعلاجٌ في مُستشفى "يُنقذ" حياته في اللحظات الأخيرة (الدوخة والوقوع أرضاً نتيجة إدمانه على الكحول)؛ نفاذٌ من الموت إثر تحطّم طائرة هيلكوبتر، مع إصابة بضغط في الفقرات.
اقــرأ أيضاً
"يا لها من متعة أنْ نمثّل في السينما"، يقول بعد بوحٍ ذاتيّ عن علاقته بالتمثيل لحظة انكماشه في المرض: "ما من شيء قادر على إيقاف الممثل عن التمثيل"، مع أنّه يتوقّف عن التمثيل منذ أعوام. فالسينما تمنحه "مجداً وثروة، والكثير من الرضا". هو مُنتبه إلى أنّه، وزملاء مهنة ينتمون إلى جيله، يعملون في الاستعراض، ويمنحون الناس فترة راحة، ومناسبة سريعة الزوال لنسيان هموم وقلاقل في "دوّامة عالم متخيّل يتحقّق في فيلمٍ".
لذا، يجلس مراراً في غرفةٍ تُريحه من ثقل الزمن، فيتأمّل فضاء ممتدّاً أمام عينيه، ويستعيد ماضياً يصعب اختزاله، ويرى في ذاكرته أصدقاء راحلين (بيرت لانكستر، جون واين)، وينصرف إلى كتابةٍ يريدها مرآة ذاتٍ وروحٍ وسيرة. في هذا كلّه، يستدرج إلى مكانه شخصياتٍ وأدواراً، محاولاً دفعها إلى الإفصاح عن مكنوناتها إزاءه، فهذا زمن وتاريخ وحالات، يصعب إغفالها: "كنتُ فان غوغ التعيس والمضطرب. هذا الدور هو الأصدق والأكثر إرهاقاً من الأدوار كلّها التي أدّيتها في حياتي المهنيّة الطويلة". وفان غوغ، في Lust For Life لفنسنت مينيلّي (1956)، يضعه أمام أبناء البلدة البلجيكية "بوريناج"، أثناء التصوير. هناك، حيث منجم للفحم يأتيه فان غوغ للتبشير أولاً، قبل انغماسه في يوميات العاملين فيه، راسماً إياها وإياهم في بدايات مساره الفني، يلتقي دوغلاس أناساً يتعاملون معه بصفته "الرسّام المشهور الذي سخّر حياته لخدمتهم"، لا بصفته "كيرك دوغلاس الممثل". قوله هذا يُناقض قول آنّ دلْفوس، إحدى المشاركات في الفيلم ككومبارس: "كان معروفاً للغاية في تلك الفترة كممثل".
أفلامٌ كثيرة له تتناول مسائل مرتبطة ببلده وتاريخه، وبالبشرية ومتغيّراتها، وبالانفعال ومتاهاته. مواقف في السياسة والاجتماع، ولقاءات مع قادة وسياسيين، وجولات في دولٍ وحالات: هذا اختزال غير كافٍ لسيرة رجل له في التمثيل ألق الابتكار ومتعة العمل مع كبار (بيلي وايلدر، راوول والش، ويليام وايلر، هاورد هوكس، ستانلي كوبريك، جوزف أل. منكيافيتز، كينغ فيدور، مايكل كورتيز، وغيرهم)، وله في الحياة ألف حكاية وحكاية، لن تنتهي برحيله، بقدر ما تُعيد سرد مرويّاتها من جديد.
عزلته أعواماً مديدة قبل رحيله (5 فبراير/شباط 2020)، المنبثقة من شيخوخة ومرضٍ وعجزٍ عن التفاعل الاجتماعي والعمل السينمائي، رغم توقه الهائل إلى بلاتوهات التصوير، نمطٌ من إعادة اكتشاف أزمنة وانقلابات وحالات. فهو، بعيشه 103 أعوام، مرافق أصيل لمسار تاريخي متعلّق بالقرن الـ 20، وبفنٍّ سيكون كيرك دوغلاس الشاهد الأخير على أحد أجمل فصول سيرته.
لن يكون عابراً وصفٌ يليق به: "مولودٌ مع هوليوود، يكبر كيرك دوغلاس بالأسود والأبيض، ويكافح بالألوان" (ميكاييل نولان، "لو فيغارو" الفرنسية، 6 فبراير/شباط 2020). الإضافة لن تحول دون جمال هذا الاختزال المكثّف لحياة "آخر بطل للعصر الذهبي الهوليوودي". فبعد "كفاحه" بالألوان، يذهب "سبارتاكوس" إلى عزلته شيئاً فشيئاً، مع تنامي ظاهرة التقنيات الحديثة والإنتاجات الضخمة و"الأبطال الخارقين" واشتغالات الكمبيوتر، في سينما يبدو أنّ "فان غوغ" غير متمكّن من التأقّلم معها. والعالم نفسه الذي يُدركه دوغلاس، والمتبدّل بكثرة في فتراتٍ قليلة، غير قادر على مواكبة الغليان الحاصل، فإذا بـ"عوليس" ينسحب، ليس حبًّا في الانسحاب فقط، وليس رضوخاً لوطأة المرض فقط، بل ربما لشدّة الخراب الضارب في أحوال الدنيا.
برحيله، تُستعاد تجاربه المريرة مع الموت، التي يرويها باقتضاب في ثالث ثلاثية سيرته الذاتية، "ضربة حظّي" (ترجمة حرفية للعنوان الإنكليزي My Stroke Of Luck، الصادر بالإنكليزية عام 2002)، مُعدّداً إياها بسلاسةٍ كأنّها غير حاصلة معه، وببساطةٍ تليق بمُعاندٍ للموت وعاشق للحياة، وبسكينةِ مُتصالحٍ مع الذات في الفصل الأخير من رحلته نحو الغياب.
فمنذ بلوغه 5 أعوام (مواليد "أمستردام" في ولاية نيويورك، 9 ديسمبر/كانون الأول 1916)، يختبر كيرك دوغلاس الموت، ويتحدّى فكرة الرحيل، ويتوغّل في أسئلة العيش والعلاقات والخلاص: غرقٌ في بئر؛ نجاةٌ من إصابةٍ بسهمٍ أثناء تصوير مشهدٍ مع والتر ماتاو من The Indian Fighter لأندره دو توث (1955)؛ سقوطٌ من علٍ وارتطام الرأس بصخرة وغيبوبة لـ 5 أيام، أثناء تصوير مشهدٍ مع يول براينر من The Light At The Edge Of The World لكفن بيلّينغتن (1971)؛ تعرّضٌ لدوخة أثناء رقصة مع زوجته آنّ في ملهى ليلي في نيويورك، عام 1989، وسقوط على الأرض، وعلاجٌ في مُستشفى "يُنقذ" حياته في اللحظات الأخيرة (الدوخة والوقوع أرضاً نتيجة إدمانه على الكحول)؛ نفاذٌ من الموت إثر تحطّم طائرة هيلكوبتر، مع إصابة بضغط في الفقرات.
هذا ليس تفصيلاً. الموت مرافقٌ دائم لمن يُشارك في صنع مجد السينما الأميركية، وتاريخها الأجمل. كأنّ مرافقة الموت اختبار يوميّ لامتلاك ترف العيش وحيويته، فهو "يلتقي الحظّ صدفةً" (كما في العنوان الفرنسي للجزء الثالث من سيرته)، ويُكمِل دربه محصّناً بالتمثيل. أو ربما يُكمِل دربه وفقاً لنيتشه: "من لديه سبب للعيش يستوعب الظروف كلّها". أليس ترف العيش وحيويته، رغم مصائب وتساؤلات وقلاقل، متأتيين من هذا الاستيعاب، ومن تلك القدرة على تحويل الاستيعاب إلى سلوك عيش ومنطق حياة؟ أليس التمثيل تحصيناً لهذا كلّه أيضاً؟
"يا لها من متعة أنْ نمثّل في السينما"، يقول بعد بوحٍ ذاتيّ عن علاقته بالتمثيل لحظة انكماشه في المرض: "ما من شيء قادر على إيقاف الممثل عن التمثيل"، مع أنّه يتوقّف عن التمثيل منذ أعوام. فالسينما تمنحه "مجداً وثروة، والكثير من الرضا". هو مُنتبه إلى أنّه، وزملاء مهنة ينتمون إلى جيله، يعملون في الاستعراض، ويمنحون الناس فترة راحة، ومناسبة سريعة الزوال لنسيان هموم وقلاقل في "دوّامة عالم متخيّل يتحقّق في فيلمٍ".
لذا، يجلس مراراً في غرفةٍ تُريحه من ثقل الزمن، فيتأمّل فضاء ممتدّاً أمام عينيه، ويستعيد ماضياً يصعب اختزاله، ويرى في ذاكرته أصدقاء راحلين (بيرت لانكستر، جون واين)، وينصرف إلى كتابةٍ يريدها مرآة ذاتٍ وروحٍ وسيرة. في هذا كلّه، يستدرج إلى مكانه شخصياتٍ وأدواراً، محاولاً دفعها إلى الإفصاح عن مكنوناتها إزاءه، فهذا زمن وتاريخ وحالات، يصعب إغفالها: "كنتُ فان غوغ التعيس والمضطرب. هذا الدور هو الأصدق والأكثر إرهاقاً من الأدوار كلّها التي أدّيتها في حياتي المهنيّة الطويلة". وفان غوغ، في Lust For Life لفنسنت مينيلّي (1956)، يضعه أمام أبناء البلدة البلجيكية "بوريناج"، أثناء التصوير. هناك، حيث منجم للفحم يأتيه فان غوغ للتبشير أولاً، قبل انغماسه في يوميات العاملين فيه، راسماً إياها وإياهم في بدايات مساره الفني، يلتقي دوغلاس أناساً يتعاملون معه بصفته "الرسّام المشهور الذي سخّر حياته لخدمتهم"، لا بصفته "كيرك دوغلاس الممثل". قوله هذا يُناقض قول آنّ دلْفوس، إحدى المشاركات في الفيلم ككومبارس: "كان معروفاً للغاية في تلك الفترة كممثل".
أفلامٌ كثيرة له تتناول مسائل مرتبطة ببلده وتاريخه، وبالبشرية ومتغيّراتها، وبالانفعال ومتاهاته. مواقف في السياسة والاجتماع، ولقاءات مع قادة وسياسيين، وجولات في دولٍ وحالات: هذا اختزال غير كافٍ لسيرة رجل له في التمثيل ألق الابتكار ومتعة العمل مع كبار (بيلي وايلدر، راوول والش، ويليام وايلر، هاورد هوكس، ستانلي كوبريك، جوزف أل. منكيافيتز، كينغ فيدور، مايكل كورتيز، وغيرهم)، وله في الحياة ألف حكاية وحكاية، لن تنتهي برحيله، بقدر ما تُعيد سرد مرويّاتها من جديد.