طنجرة ضغط... محطّات في اليقظة ومحطّات في الخدر

21 يناير 2019
خطوط الدرامز مكتوبة بعناية على طول الألبوم (صفحة الفرقة/فيسبوك)
+ الخط -
لا يمكن بأيّ حال التغاضي عن الشبه بين مقدمة ألبوم فرقة "طنجرة ضغط" الأول، و"بين أسعد الله مساءكم" لزياد الرحباني وروح نصوصه، مع عدة فوارق طبعاً، أبرزها تحول المقدمة الموسيقية إلى الجاز التجريبي إلى الروك العنيف في مواضع عديدة منها، وأيضاً في جودة الكتابة والأداء؛ إذ افتقدت إلى الإحكام، فالنص المسجّل يجب ألا يكون ارتجالياً، ولو كانت هناك رغبة أن يظهر كذلك. كما غابت عن العمل كاريزما الصوت المؤدي وشخصيته، مع تباين ديناميكيات الأداء، وهذا ما امتد عبر الألبوم كله وكاد أن يفسد حلاوة الموسيقى، ويغطي عن المجهود المبذول في صناعتها وإنتاجها. على مستوى الميكس أيضاً، جاء صوت المغني منفصلاً عن الموسيقى، وكأنه يغني على موسيقى مسجلة minus one في عرض حي.
 
من جهة أخرى، تتضح لنا جودة الموسيقى المصاحبة، عبر الألبوم كله، من حيث التسجيل والأداء - العزف والإنتاج، بالرغم من عدم القدرة على الإمساك بلحن صريح لأغنية، وخصوصاً أننا نشعر بأن الفريق اختار قوالب موسيقية، أكثر من كونه ألّف موسيقى، لكنها قوالب منتقاة ومنفذة بجودة نادرة الحدوث عربياً في المشهد المستقل.

"طنجرة ضغط"، الاسم اللافت الذي اختارته الفرقة ليمثلها، ويمثل الشباب العربي المضغوط في طنجرة بلاده؛ جاءت ثيمة ألبومها الأول نفس الثيمة؛ أي واقع الشاب العربي تحت الضغط وقرب انفجاره.

جاءت أغنية "تحت الضغط"، لتكون تأكيداً على وقوع الفرقة في فخ الكتابة للذات. ليس ضرورياً من أجل أن تنتج عملاً كفرقة، أن تكتبه برغم عدم إجادتك الكتابة، وهو فخ تقع فيه أغلب الفرق المستقلة، وخصوصاً حين يكون قالبها الموسيقي غريباً عن اللغة العربية، مثل الروك، الذي يقترن في الغالب بفخ التعريب؛ أي كتابة كلمات الأغنية كأنها ترجمة معربة للغة أخرى، هذا لا يمكن تجاهل أثره على الأداء الذي لم يكن ينقصه هذا التحدي. مثلاً، فإن مقطع "ليه قدري كون مقاتل؟"، أفسده الأداء الغنائي غير الصادق؛ فالأداء عبر الأغنية كلها لم يكن أصدق منه في الهتاف "تحت الضغط".

حملت أغنية "تنفيسة" حالة من الفصام، بين الرغبة في التواصل الإنساني مع الآخر والنفور منه بشكله التوجيهي، والفوقي، وهي قضية أخرى مشوّقة. الموسيقى جيدة للغاية. كالعادة، الفرقة مثلت هذا الفصام في انتقال بين الروك والهارد روك عبر الأغنية.

عموماً، نتلمّس لمحات من روح موسيقى "بينك فلويد"، و"كولد بلاي"، عبر الألبوم. امتدت ثيمة الفصام التي يعانيها الشباب العربي بواقعه، التي عبّرت عنها أغنية "بديل" ببراعة موسيقياً ولفظاً. الأغنية تشكّل جزءاً لا يتجزأ من السايكدليك روك الذي اختاره الفريق لوناً له، ولثيمته واسمه، وهو مشروع لا يغيب عنه المفهوم أبداً، وقلما وضح اتجاه المشروعات على المستوى المستقل عربياً أيضاً.

في "وحياتك"، لم يكن الأداء على مستوى جودة الموسيقى، ما يؤدي إلى انصراف الانتباه عن الكلمات والمحتوى، ليتوجّه المُستمع إلى الموسيقى. وعلى المنحنى المرسوم لديناميكية الألبوم، كانت هي الذروة التي يقرر فيها الفريق الانفجار. تقول الأغنية: "وحياتك ما راح هدي، راح خرج كل شي عندي".

خطوط الدرامز مكتوبة بعناية على طول الألبوم من دون هفوات، وتجاوزت دورها الإيقاعي إلى دور لحني مواز لـ الآلات الأخرى كما ينبغي، كما أن أصوات الغيتارات وتأثيراتها منتقاة بعناية وحرفية شديدة. الباص غيتار الأقل ظهوراً في الموسيقى والميكس، وكان يحتاج إلى أن يكون أكثر عرضاً في موجاته، لكنه أدى دوره بالكمال من حيث الحروف النغمية المعزوفة وإيقاعاته.

"سُفر الفلاحين" هي بدء عودة المنحنى للهدوء بعد العاصفة. ويبدو من عبثية الكلام أنها وصف تحت تأثير مخدر ما، وهو أيضاً سبب هذا الهدوء. مرة أخرى تتجلى الفلسفة وراء الألبوم، ومرة أخرى ينقص الأداء من قيمتها.

"لا تخاف" عودة إلى الصوت الموسيقي القوي. ملحمة من الحوار مع النفس وكأن المحطة التالية للخدر هي الاستيقاظ على الواقع العنيف، ومحاولة من الشخص لتهدئة نفسه ومواساتها برغم الأحداث الخارجية التي وعاها (القصف، الجنازة، الدم) ونفي الخوف عنها.



أغنية "يا رمادي" لم تقلّ أهمية عن سابقاتها من حيث المضمون. على موسيقى الميتال، كان الأداء الصوتي غريباً وحائراً بين التنغيم والإيقاع ومفتقداً لقوة الديناميك التي يحتاج إليها مؤدو النوع الموسيقي وليس تكنيك التشويش: "ما الأبيض عم بيخونك والأسود عم بيخونك لكونك بالوسط ورمادي لونك". من حيث الموسيقى، كانت خياراً ممتازاً لختام الألبوم ختاماً قوياً مؤثراً لجرعة نفسية متطرفة وواقعية. يمكننا القول، من دون تردد، إن ألبوم فرقة "طنجرة ضغط" الأول هو علامة مهمة للغاية في المشهد الموسيقي المستقل، ومن الألبومات القليلة السايكدليك حقاً، والمعنية بالوضع النفسي والإسقاط السياسي غير المباشر على واقع الشعب العربي من دون ابتذال، كما يمكن القول إن الألبوم هو رحلة لشاب/ فتاة عربي داخل عقله/ عقلها، وصراعه مع الواقع وأفكاره وما يشعر به ويحكمه. وهو أيضاً من قلائل الألبومات التي تضمها ثيمة واحدة وخط درامي للأغاني، وتتابعها المرسوم بعناية يشي بفلسفة عميقة وراءها وعي كامل بالهدف.

دلالات
المساهمون