الحكواتي: فنان شامل في مقاهي دمشق وحلب

10 يوليو 2018
فنّ راق ومتعة استماع للماضي (لؤي بشارة/فرانس برس)
+ الخط -
مهنة عرفتها بلاد الشام واشتهرت حلب ودمشق بها، وأصبحت من التراث السوري، يلقب بالحكواتي، وهو الراوي الذي يجمع أبناء الحي في الأحياء الشعبية ليقص عليهم سيرة عنترة بن شداد، وبني هلال، والملك الظاهر، وغيرهم. وهو يجمع بين أحداث روايات مختلفة أحياناً، وينوّع، ويضيف إليها أحداثاً مأساوية لم يكن قد رواها من قبل، بحيث تضفي مسحة من الجدّة، حتى بالنسبة للأشخاص الذين يظنون أنهم يستمعون إلى روايات يعرفونها.
يقوم الحكواتي برواية السيرة وهو يروح ويجيء في وسط المقهى، ويتوقف بين الحين والآخر، عندما تتطلب العبارة نوعاً من التوكيد، والكلّ ينظرون إليه باهتمام بالغ وهم يستمعون إليه، وعندما يصل إلى نقطة هامّة أو مغامرة شائقة، وتبلغ الإثارة عند المستمعين أوجها، يتوقف عن الكلام، وقد يخرج من المقهى قليلاً، أو قد يدخن، مخلفاً وراءه بطله ومستمعيه وهم في قمة الإثارة. ويحاول الجالسون قرب الباب منعه من الخروج، بل إن بعضهم يتوسلون إليه بأن يعرفوا ماذا حصل لبطل السيرة، إلا أنه ينسحب (كأن يترك عنترة واقعاً في الأسر)، وقد يفاجئ الجميع بأن يمضي إلى البيت، فيلحق به أنصار عنترة، وقد يوقظونه، بعد أن يكون نائماً، كي يخرج لهم عنترة من السجن، لكنّه يعدهم بأنه سيفعل في اليوم التالي، وهم مشغولون على عنترة، وكيف سيخرج من السجن.




يتحمسون في اليوم التالي، ويجلس بعضهم، وبعضهم يظل واقفاً، لمعرفة مصير بطلهم، ويشكلون مجموعات منفصلة، وينهمكون في نقاش حاد حول شخصيات السيرة، وأحداث المغامرة التي لم تنته، وتزداد حدّة الجدال شيئاً فشيئاً، ويعبّر الحاضرون عن آراء متناقضة بحماسة منقطعة النظير كما لو أنّ مصير المدينة يتوقف على هذا القرار.
وعمل الراوي يكون على فترتين، بين صلاتي المغرب والعشاء، ويقف مستعيناً بكتاب ضخم يصطحبه معه بشكل دائم، ويبدأ الكلام عن الشخصية التي غالباً ما تكون عنترة أو الزير سالم، أو الظاهر بيبرس، وتدور أحداثها عن البطولة والشرف والشجاعة ونصرة المظلوم والمحتاج، وفي نهاية القصة لا بدّ أن ينتصر الخير. وكان الحكواتي يقوم بتجسيد الشخصيات، وهو يبدأ بتحريك اليدين وهز الرأس، ويتلاعب بالصوت، فمرّة يؤديه عالياً، ومرّة يؤديه منخفضاً، ويضخم الأحداث ويجعل الجمهور يعيش انفعالات البطل إن كان في مأزق أو في محنة.
هذه المهنة تتشكل من عدّة فنون، من ناحية (القص وحالة التمثيل والدراما أيضاً)، وعليه أن يضفي الإثارة من عنده، فهو يجيد السرد بحنكة الفنان المحترف وصاحب المخيلة الخصبة والأداء البليغ، ويتقن أسلوب التشويق وإثارة الحماسة والتعاطف مع أبطال قصصه، كما يطلق الحكمة والعبرة وقد يتحول إلى مصلح اجتماعي.
غالباً ما يتقاضى الحكواتي أجرته من صاحب المقهى، على شكل نسبة مئوية من سعر كلّ فنجان قهوة يوزع على الحضور، لأنه يعتبر أن غالبية رواد المقهى هم جمهوره الخاص.

مقهى "النوفرة" والحكواتي
في قلب دمشق القديمة، وعند الباب الشرقي لمسجد بني أمية، يطالعنا مقهى "النوفرة"، أقدم مقهى في دمشق، إذ يعود بناؤه إلى خمسمائة سنة، وقد شهد هذا المقهى مهنة الحكواتي، وكان آخرهم حكواتي الشام "عبد الحميد الهواري" (1885 – 1958)، وله صورة تتصدر المقهى، إلى جانب مجموعة لوحات، مثل عنترة بن شداد والزير سالم، وأبو زيد الهلالي.
وظل هذا المقهى حاضناً للحكواتي وللروّاد الذين يحضرون خصيصاً لسماعه، وبعد وفاة حكواتي الشام، لم يشأ صاحب المقهى أن تختفي هذه الشخصية منه، فاختار رشيد الحلاق (أبو شادي)، وأقنعه بأن يقوم بدور الحكواتي، وهكذا كان.
يعج المقهى بالروّاد الذين يدهشهم هذا النوع من التراث الشعبي. وهنا يظهر أبو شادي بالزي الشامي التقليدي، والمؤلف من سروال وسترة مطرزة واضعاً الحزام التقليدي، وعلى رأسه الطربوش، ويتخذ مكانه على الكرسي المرتفع في صدر المقهى وبيده سيفه الطويل، يسود الصمت، وتتجه الأنظار نحوه، ثم يبدأ بقراءة السيرة، مستخدماً مهاراته في الإلقاء، وتقمص الشخصية، وأحياناً يرفع السيف ويهوي به على الطاولة عندما يكون المشهد معركة حربية، أو أسر عنترة، وعندما يصل إلى خروج عنترة من السجن، أو زواجه من عبلة، كان المستمعون يقومون بتزيين الحي وقرع الطبول وتوزيع الحلويات والسكاكر.
وقد توفي آخر حكواتي في حلب عام 1981، وتوقف عن العمل قبل ذلك، واسمه محمّد الحموي، وكان يقدم فنه في عدّة مقاهٍ، وربمّا ينتقل في الليلة الواحدة إلى أكثر من مقهى. ولقد أصبحت شخصية الحكواتي اليوم رمزاً ثقافياً بالنسبة للبلدان التي اشتهرت بهذا الفن، وصارت محل اهتمام خاص في مجال السياحة، إذ إن القائمين على شؤون هذا المجال أصبحوا يرجون لبلدانهم عبر شخصية الحكواتي التي تظهر في لباسها القديم، وتجلب العديد من الزوار الأجانب بالإضافة إلى السكان المحليين.
المساهمون