آتوم ايغويان: "صُغتُ الفيلم بشكلٍ يتطلّب من المُشاهد بعض الثقة"

23 مارس 2020
ايغويان: أحياناً نولد في عائلة غير مناسبة (سامي عبدالله)
+ الخط -

يعود المخرج الكندي آتوم ايغويان إلى الواجهة، مع عمل سينمائي ممعن في الدراما الأسرية، أطلق عليه عنوان "ضيف شرف". عنوان لا يُدرَك معناه إلاّ بعد انقضاء ثلاثة أرباع الفيلم. من خلال العلاقة المتأزمة التي تربط جيم (ديفيد ثيوليس) بابنته فيرونيكا (لايسلا دو أوليفيرا)، ينسج ايغويان حكاية تغوص في الماضي لتنتشل ما اعتقد أبطالها أنها طُويت إلى الأبد، ولتستخرج عذابات تحمل كلّ علامات سينماه، من الإحساس بالذنب إلى الذكريات الأليمة التي تطارد الإنسان مهما فعل.

عُرض "ضيف شرف" في الدورة الـ76 (28 أغسطس/ آب ـ 7 سبتمبر/ أيلول 2019) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي"، واستعاده "مهرجان القاهرة السينمائي الدولي" في دورته الـ41 (20 ـ 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019)، حيث التقت "العربي الجديد" مخرجه في هذا الحوار الخاص.


في فيلمك الجديد، "ضيف شرف"، تبحث عن سرّ عائلي، وفي الأخير ينفجر هذا كلّه في وجه المُشاهِد. موضوع العائلة لطالما كان من صلب اهتمامك. لماذا؟
العائلة هي المكان الذي نأتي منه جميعاً. جميعنا لدينا نماذج مستقاة من شخصيات عائلية، أكانت أباً أم أماً أم أشقّاء أم أجداداً. هذا ما نحمله على ظهورنا إلى الأبد. أحياناً، يحدث أنّنا لا نولد في العائلة المناسبة. هناك مَن يشعر بأنّ عائلته تقمعه. فيلمي هذا يتحدّث عن عائلة كان ممكناً أنْ تكون مثالية، إلاّ أنّها تفكّكت. شيء ما تحطّم فيها جرّاء تعرّضها لكارثتين متتاليتين، جعلتا أفراد العائلة غير من هم عليه في الواقع. أصبحوا أشخاصاً آخرين. مع ذلك، استمرّت العلاقة التي تربط الأب بابنته، لكنْ مع تحمّل تبعات القرارات المتّخذة، وهي قرارات لا يملكان أي وعي تجاهها. هدفي من الفيلم أنْ أدرس هذه الحالة من الروابط الأسرية المعقّدة والمتداخلة، وهي حالة غير مألوفة.

إحساس بالذنب يسيطر على الشخصيات في أفلامك. هل يمكن العثور على مصدر هذا الشعور في تجربتك الحياتية؟
أتفهّم إحساس الابنة بالذنب. هذا واضح. أما إحساس الأب بالذنب، فهذا غير عادي. هو كأب لم يكن لديه خيارات كثيرة. لم يكن بإمكانه الإفصاح لابنته عن علاقته الغرامية، لأنّها كانت في العاشرة من العمر حينها. هو اعتقد أنّه أخفى هذه المعلومة عنها بإتقان شديد. لذلك، عندما علم أنّها كانت تعرف، شعر بصدمة كبيرة. لذلك، أعتبر أنّ "ضيف شرف" ليس فقط عن الذنب، بل أيضاً عن النكران. نحن البشر لدينا هذا الشيء الذي اسمه "ميكانيزم" الدفاع، الذي يتجلّى في نكران ما يحلّ بنا. الذنب يُثقل كاهل الإنسان، ويؤثّر في الخيارات التي يتّخذها. لكنْ، لحسن الحظ، توفّر الحياة احتمالات مختلفة للتعامل مع الذنب: يُمكنك أنْ تصبح أسيراً له، ويمكنك التحرّر منه. لا يتعامل الجميع مع الذنب بالطريقة عينها. هناك مَن يتلذّذ به ويوظّفه في حياته. توجد جوانب عدّة له.

أما للردّ على سؤالك، فنعم. لا يمكن أنْ أفصل هذه التيمة المتأصّلة في أفلامي عن تجربتي المعيشة، وعن انغماسي في محيطي وعلاقاتي بناسي.

مرةً جديدة، تروي حكاية بأسلوبك المعروف في خلط الأوراق. الفيلم يشبه البازل، وعلى المُشاهِد تركيب قطعه المتناثرة. لكنْ، ربما لا نفهم كلّ شيء، لأنّ علينا أنْ نتبع منطقك السردي. خلاصة المسألة: هل تستمتع في تعذيب المُشاهِد؟
(ضحك) في الحقيقة، وجدتُ في هذه القصّة شيئاً غامضاً، شيئاً صوفياً. هناك ألغاز. بنية الأفلام من هذه الألغاز. صغتُ الفيلم بشكلٍ يتطلّب منك كمُشاهِد بعض الثقة. الأشياء لا تتطوّر على النحو الطبيعي فيه.

هل تابع الممثّل ديفيد ثيوليس، الذي يقوم بدور الأب، دورات تدريبية مع مراقبي المطاعم ليجيد تمثيل دوره؟
نعم. المشكلة أنّه لا يمكنك مرافقة المراقبين إلى المطاعم، لكنْ يمكنك التحدّث معهم عن كيفية عملهم، والحكايات التي لديهم عن تجربتهم المهنية. للأسف، لا يمكن الذهاب معهم إلى أبعد من هذا. العمل الذي يقومون به يتخطّى الخيال. لا أعرف إذا صادف أنْ كنت في مطعم خلال وجود أحد هؤلاء المراقبين فيه. عندها، ستشعر حتماً أنّ هناك ارتباكاً في الجوّ (ضحك). في المقابل، أخبرني أصحاب مطاعم أنْ بعض المراقبين يبتزّونهم، ويطالبونهم بالرشوة.

كيف تصف العمل مع ديفيد ثيوليس، خصوصاً في ما يخصّ انغماسه في تفاصيل البيئة الشرق أوسطية التي تزجّه فيها؟
مع ديفيد، عملتُ على منطق تمثيلي واضح: كبت الأحاسيس. جعلته يقمع مشاعر كثيرة. في مشهد الحفلة التي يدعوه إليها أصحاب المطعم الأرمن، يحتاج إلى بعض الوقت لينتبه أنّه ضيف الشرف. هذا يأتي من كونه يشعر بوحدة عميقة. الحفلة كلّها مفتعلة، ما كانت لتحدث لولاه.

هناك مشهد فظيع في الفيلم: قطع ساق الأرنب. من أين أتيت بهذه الفكرة؟
أعتقد أنّ الأرنب شيء يعنيه في الصميم. في الحياة، نحتاج إلى طقوس. أعتقد أنّ جيم إنسان متديّن. في مشهد من المَشاهد، يرفع كأسه ويشرب نخب دم المسيح. هناك شيء انهار في داخله، لكنّه يترك فيك دائماً هذا الشعور بأنّه يحتاج إلى طقس ديني. هذا ما لم يستطع تحقيقه في حياته، بسبب الظروف التي عاشها. من هنا جاء مشهد الأرنب.

لا تقول في الفيلم كيف يموت جيم. هل فاتتني معلومة ما في هذا الصدد، أم أنّك قصدتَ عدم الكشف؟
تركتُ هذا لخيال المُشاهِد. ما رأيك أنتَ؟ كيف تعتقد أنّه يموت؟ سكتة قلبية ربما؟ هذه الفرضية الأخيرة هي التي أرجّحها. يُقال في الفيلم إنّه كان مريضاً. ربما يكون عرف قبل وفاته أنّه يعاني مرضاً ما. أعتقد أنّه، في آخر زيارة له للطبيب، كان يعلم ذلك. لكنْ، إذا كنتَ تلمّح إلى أنّه انتحر، فهذا غير وارد البتّة. لا يوجد أي انتحار.

عادةً، عندما تترك بعض العناصر في الضباب، هل هذا يعني أنّك لا تملك جواباً عنها؟
لا أفعل هذا خلال مرحلة الكتابة. لكن، عندما أعمل مع الممثّلين في المرحلة التي تسبق التصوير، هم يحتاجون إلى أجوبة عن بعض التساؤلات التي تجول في خاطرهم. في حالة هذا الفيلم، لم أواجه أيّ مشكلة من هذا النوع. لا أحد من الممثّلين كان مشغولاً بالتفاصيل التي أجهلها ربما. عندما يطلب جيم مثلاً أنْ تجري جنازته في الكنيسة الفلانية، هل يتوقع أنْ يروي الكاهن قصّته لابنته؟ هذا سؤال لا أعرف جوابه إلى الآن. أقولها صراحة: لا أعرف. هو شخص يحسب حساب كلّ شيء. هل أعجبه هذا الكاهن عندما حضر جنازة قبل سنوات؟ هو يخطّط لكلّ شيء، لكنْ لا وجود لدلائل بأنّه خطط لهذا الشيء.

الفيلم يأتي على شكل طبقات عدّة. هذا نمط من الشغل استلهمته من الروايات التي طالعتها في حياتي. في كلّ مرة، كنتُ أتساءل: لمَ لا يُمكن بناء فيلم على هذا النحو. عندما تقرأ، تكون في حالة تورّط مع الكتاب. لمَ لا يكون للمُشاهِد درجة التورّط نفسها في الفيلم الذي يشاهده؟ أعرف أنّ الموضوع صعب أحياناً، لكنْ ربما تقطف ثمار هذا الجهد إذا تمسّكتَ بطول الأناة طوال 90 دقيقة من الزمن.

الانتقال بين الأزمنة، أهذا شيء تقرّره أثناء كتابتك السيناريو، أو يأتي خلال عملك على المونتاج؟
ربما أعدّل قليلاً خلال المونتاج. لكنّ الأساس موجود في السيناريو. في أحد أفلامي، غيّرنا كلّ شيء. لم تكن النتيجة النهائية شبيهة بما كان مكتوباً في السيناريو.

هل تجد أنّ للسينما أي وظيفة اجتماعية؟
عبر التاريخ، تمكّنت أفلام من ترك أثر عميق في المجال الاجتماعي. كما أنّها استطاعت تغيير نظرة الناس إلى الواقع الذي حولهم. بيد أنّها لم تتفوّق على الموسيقى أو الفنون الأخرى. تأثير الفيلم في المُشاهدين أشدّ عندما يستطيع إيجاد آذان صاغية للأسئلة التي يطرحها.

بين السينماتين الأنغلوساكسونية والفرنكوفونية في كندا، هل توجد فوارق أساسية بنظرك؟
بالتأكيد توجد فوارق. السينما الناطقة بالفرنسية لديها ارتباط وثيق بجمهورها. الجمهور الفرنسي يحبّ الاستماع إلى لغته الأم وهو يشاهد الأفلام. عندما بدأتُ أعمالاً في شبابي، تلك السينما تركت فيّ أثراً عميقاً. إرث سينما المؤلف التي جاءتنا من كيبيك كان بالغ الأهمية لي. أتكلّم عن سينمائيين مثل دوني أركان وبيار بيرو، اللذين تعلّمتُ منهما الكثير، لا سيما أنّ المقابل لهما كان مفقوداً لدينا في تورنتو.

كلّ سينما منهما تختلف عن الثانية اختلافاً جذرياً. مجمل السينما الكندية ينبثق من بيئة ذات ثقافة متنوّعة. لا يوجد رداء موحّد يرتديه العاملون جميعهم فيها. نأتي من خلفيات مختلفة، ونعمل بموازنة ضئيلة وإمكانات محدودة. إذا طمح المخرج إلى شيء أضخم، عليه الذهاب إلى الولايات المتحدة الأميركية. هذا ما فعله سينمائيون كنديون كثيرون عبر التاريخ، من نورمان جيويسون إلى جيمس كاميرون، مروراً بدوني فيلنوف.

دلالات
المساهمون