غاسبار نُوِيه يتجلّى في "ذروة": التفكيك النفسي

24 سبتمبر 2018
غاسبار نويه (فيسبوك)
+ الخط -
يغوص غاسبار نُوِيه في أعماق النفس البشرية. يخترق حصونها. يتجوّل في أروقتها ودهاليزها. يتمعنّ في مسام روحها. يبحث عمّا يُثير لديه شغف تحطيمها، محوّلاً الشغف إلى تجوالٍ صاخبٍ في ثناياها، صانعًا بتجواله هذا سينما صادمة ومُدهشة. يريد من النفس البشرية أن تعينه على ابتكار صُوَر سينمائية، لا أكثر (أو ربما هذا ما يُخيَّل لمحبّي سينماه). لكنه، باختراقه إياها، يبدو كأنه مستمتع بالقبض على مفاتيحها، وبإيهام نفسه بفهمها، وبتشييد عمارة سينمائية تنجو من كلّ تحليل مكتوبٍ لشدّة تماسكها وهوسها بتصوير كلّ خراب نفسي ـ روحي ـ ذاتي يعتريها. 

لكن تعبير "خراب" غير متلائم كلّيًا مع نسق اشتغاله السينمائيّ. فالخراب النفسي ـ الروحي ـ الذاتي لشخصياتٍ مختلفة واقعٌ مأخوذ من انهيارات تُصيب المرء أو الاجتماع، رغم نقاء أفلامه من الاجتماعي وعوالمه المُبَاشرة. فغاسبار نُوِيه مهموم بالذات البشرية، وبكلّ ما فيها من تكوينات ملموسة وغير ملموسة. هاجسه معقودٌ على هذا الجسد وما فيه من أعطاب، وعلى هذه الروح وما تحتويه من مصائب وتداعيات، وعلى هذا العقل وما يعتمل فيه من تفكير وتأمّل يتمكّن السينمائي من إطلاقها كلّها بحرية تامّة وسط انهيار الكيان الفرديّ، أو مع انهياره.
الأرجنتيني الفرنسي (1963) مُنجذب إلى تحطيم أسس السرد وقواعده. يريد إرباك النصّ كمن يُربك المُطّلع عليه، وهذا الأخير جزءٌ من النصّ ومفاصله ومروياته وسردياته. يريد تفريغ ما في الفرد من غضب وألم وانكسار وخيبة، وكلّها مخبّأة في مسام جسده وروحه وعقله، لكنه يُنجز سينماه كمن يتسلّى في التلاعب الأقصى والأقسى بالمُشاهد، وبمواجع كثيرة للمُشاهد. هذا وهمٌ. فغاسبار نُويه ـ بأفلامه ـ يُصرّ على اللعب الذي يأخذه إلى الأبعد من المتوقّع.

التسلية مشحونة بتوتر دفين وعتيق. اللعب مشوب بارتباك وقلق عميقين. هذا جزءٌ من صنيعٍ سينمائيٍّ لن يستقيم من دون جمالية الالتباسات المعلّقة، رغم أن نصوصًا عديدة تبدو كأنها تقول يوميات معروفة أو انفعالات معهودة.



غير المتوقّع حاضرٌ بجمالية عصيّة على وصفٍ نقدي في Irreversible 2002 مثلاً. بنية السرد تبدأ من نهاية الحكاية. السرد نفسه محمّلٌ بعنف وقسوة يُتقن غاسبار نُوِيه صناعتهما بجمالٍ بصري حادٍ ومؤثّر ومثير للانتباه والمتابعة والتمعّن في مفرداته. غير المتوقّع حاضرٌ أيضًا، وبجمالية أكبر وأهمّ، في Enter The Void (2009). سلاسة الكاميرا ـ التي تبدو كأنها تحلِّق فوق الشخصيات ـ الأفراد، وتسبر أغوار نفوسهم وحالاتهم وأوهامهم في آن واحد ـ كفيلةٌ بتحويل اللقطات إلى لوحات تشكيلية بألوانٍ غامقة تعكس بهاء اللاوعي ـ الفردي والجماعي ـ في تحرّره من كلّ قيود الوعي. غير المتوقّع نفسه أساسيّ في Climax (2018)، هو القادر على تحقيق صدمات متلاحقة ودهشات متتالية إزاء الغوص القاسي في جحيم النفس البشرية، وهو غوص مصنوع بما يُشبه الكوريغرافيا التي تُفكِّك هذه النفس وتفضح أحوالها وانقلاباتها وجنونها، لا الكوريغرافيا بمعناها المباشر في فيلمٍ يبدأ برقصٍ متنوّع لشبابٍ راغبٍ فيه كنمط تعبير أو كمهنة أو كحالة، وهو رقص ينتهي سريعًا لإتاحة مساحة أكبر لرقصة جماعية تُنشد تراتيل الموت والخراب والحبّ والفوضى والنُواح والفقدان، في مشهديات لن تتقيّد بشيء، ولن تتحصّن بشيء، ولن ترتعد أمام أي شيء، فتقول كلّ ما يخطر في بال أحدٍ، وتعكس ما يشعر به كلّ أحد.

مشهد الاغتصاب في نفق للمشاة (Irreversible) عالقٌ في ذهن من يستسلم ـ وإنْ بحذر قليل ـ أمام عوالم غاسبار نُوِيه. الانتقال إلى ما تُخبّئه النفس البشرية عالقٌ في ذهن من يرغب في الاستسلام مجدّدًا لجماليات تُسحر وتصدم وتضع المستسلم أمام مرآة نفسه وحيدًا مع ذاته في جلسة تحطيم سينمائيّ لهذه النفس ولصاحبها معًا (Enter The Void). لحظة التحوّل من تمارين الرقص إلى حفلة الجنون غير المنتهية عالقةٌ في ذهن المستسلم بكليّته إلى تلك الرحلات المخيفة التي يدعوه غاسبار نُوِيه إليها، وهي مخيفة لأن المخبّأ في الذات الفردية مخيفٌ لشدّة غضبها وعنفها وجنونها، وهذه كلّها مقموعةٌ ومضطهدة، وتحتاج إلى دافعٍ وإنْ يكن بسيطًا كي تستعيد ألقها في صنع اللحظة. والدافع بسيطٌ في ظاهره: مادة ما يضعها مجهولٌ في خمر يحتسيه الجميع فيهيمون على وجوههم داخل منزل مغلق عليهم، ويبدأون التعرّي الروحي والنفسي والانفعالي أمام ذواتهم والآخرين (Climax).

هذه أمثلة. لغاسبار نُوِيه أفلامٌ أخرى تُبهر بسمات متشابهة، وإنْ يتفنّن صانعها في تبديل أشكالها وأنماط التعبير عنها من نص إلى آخر. أمثلةٌ تُحدِّد شيئًا من جوهر النص السينمائي الباحث في ما وراء الظاهر، والكاشف عن كلّ مُبطّن. لن يُجدي نفعًا الاحتكام إلى علم النفس لـ"فهم" سينما غاسبار نُوِيه، فسينماه أعمق من أيّ تحليل علمي، وأصدق من كلّ كشف، وأجمل من كلّ قولٍ. فيلمه الأخير مثلاً (Climax) ـ المعروض في أمسية خاصّة في الدورة الـ53 (29 يونيو/ حزيران ـ 7 يوليو/ تموز 2018) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي"، والذي يُعرض تجاريًا في فرنسا منذ 19 سبتمبر/ أيلول 2018 ـ ربما يكون أقدر أفلامه على جعل النفس البشرية أصدق في تعاملها مع نزواتها ورغباتها وأهوائها وهواجسها، وإنْ بسلوكها أصعب الدروب وأقساها وأكثرها ألمًا.

رغم بدايته العادية جدّا (لهذا يزداد غير المتوقّع بهاءً في سرد فضاءاته وعوالمه)، التي يُقدِّم فيها شبابٌ وشابات آراءهم البسيطة عن الرقص والحياة والرغبات أمام كاميرا غير ظاهرة كأنهم في جلسة "كاستينغ"، إلا أنّ احتفالهم معًا يتحوّل إلى متتاليات تجمع الكوريغرافيا بالتفكيك النفسي، وتتيح للكاميرا التقاط "كلّ شيء" كأنها جزءٌ من الاحتفال، وتحوّل الألوان الغامقة إلى منافذ تقود إلى بعض الروح أو إلى بعض الخراب أو إلى بعض الوجع، لكنها حتمًا تقود إلى فيلمٍ بهيّ وقاسٍ.
دلالات
المساهمون