انطلقت المذيعة المصرية، ريهام سعيد، في وصلة من الإساءة والسب للنساء ذوات الوزن الزائد، متهمة إيّاهن بأنهن عبء على الدولة. بينما هي تحاول التماهي مع خطاب الدولة الذي يُلقي بمسؤولية الوزن الزائد على الأفراد ويتجاهل معدلات الفقر وسوء التغذية، انطلقت على وسائل التواصل الاجتماعي ردود أفعال من فتيات رائعات الجمال، بجسد ممتلئ وابتسامات كبيرة، يرتدين ما يرغبن فيه، ويعملن ويتحركن ويسافرن بلا أي قيود.
النقاش حول معايير الجمال لا بدّ أن يبدأ من الصحة، من مقاييس علمية تقي من الإصابة بأمراض أو تُعيق النشاط والحركة. لكن التاريخ بالطبع لا يرى ذلك بهذا الوضوح، ففي مصر الفرعونية، كانت الصورة المثالية للجمال هي النحافة! على عكس الماضي القريب، إذ أعجب الفراعنة بالجسد النحيف الممشوق والأكتاف الضيّقة والملامح المتناسقة. يبدو هذا ظاهراً من أغلب ما وصل إلينا من نقش المعابد ومن تماثيل لنساء ملكات، وراقصات وخادمات. تغيّرت الأمور قليلاً مع كليوباترا، ذات الأصل المقدوني، التي وصف جمالها بالأسطوري، رغم ملامحها التي تميل إلى الذكورة قليلاً، لكنّ السلطة كانت في يديها، والثروة والمُلك، ولها يمكن تطويع المعايير الجماليّة بسهولة.
اختلفت الصورة الجمالية للمرأة بعد ذلك، فمن الإعجاب بالمرأة المتناسقة، أو الأخرى ذات الملامح الذكورية، إلى التشبيه بالظبية والغزال وغصن البان والإعجاب الشديد بالنحافة والرشاقة، حتى قال شاعر في العصر الأموي: "وفي المرطِ منْ ميٍّ توالي صريمةٍ... وفي الطَّوقِ ظبيٌ واضحُ الجيدِ أحورُ / وبينَ ملاثِ المرطِ والطَّوقِ نفنفٌ... هضيمُ الحشا رأدُ الوشاحينِ أصفرُ". هذه الأبيات التي تفخر بطول ظهر الحبيبة وجذعها الذي يتوسطه خصرها النحيل وبطنها المطيب الضامر، ويصف ما بين عجيزتها وصدرها كأنه انحدار جبل شاهق، ما يدل على شدّة نحافتها!
تنقلب الصورة مرة أخرى، وصولاً إلى الماضي القريب، وفي ما يخص المرأة العربية والمصرية أيضاً بالتحديد في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، حيث كان وزن المرأة علامة على "العِز"، وعلى أنها جاءت من بيت غني، وبالتالي كان الرجال ينجذبون بشكل واضح إلى النساء الممتلئات، حتى وإن كانت راقصة أو مغنيّة، فلنعد قليلاً إلى غراميات سي السيد و"جليلة العالمة" في ثلاثية نجيب محفوظ، أو حتّى "السلطانة زبيدة" بعدها، حيث كان الوزن الثقيل له هيبة، والنحافة دلالة على وضاعة الأصل، أو الفقر المدقع، أو الاثنين معاً، وكانت العظام الظاهرة في الكتفين أو نحافة الرقبة مثار سُخرية.
اقــرأ أيضاً
في ذلك الزمن، كانت النساء مكنونات في البيوت، تنحصر أدوارهن الاجتماعية في الاعتناء بالبيت والرجل وتربية الأولاد، حتى بدأت الحركات النسائية في أوائل القرن العشرين تنتشر في جوانب مختلفة من العالم، وخرجت النساء إلى المجال العام مطالبات بالمساواة والحقوق المدنية والسياسية. ففي الولايات المتحدة مثلاً، تزامن انتقال الذوق العام لتفضيل المرأة النحيفة مع الحركة النسوية منذ بداية العشرينيات وحتى الستينيات من القرن الماضي. وفي حين كان الشِعر والأدب المدخلين الرئيسيين لمعرفة تاريخ معايير الجمال الأنثوية في زمنٍ سابق، ظهرت السينما ومن بعدها التلفزيون، وبدأت صناعة الإعلانات الوليدة في تكوين بعض المعايير الخاصة بها أيضاً والتأثير على صورة المرأة الذهنية في المجتمع.
هل تذكرون العصر الذهبي لأرانب البلاي بوي؟ Playboy bunnies. برغم مساهمة هيو هيفنر الواضحة في تثوير الحريات الجنسية في الخمسينيات والستينيات، إلا أن الانتشار الواسع لهذهِ المجلة وتوجهها بالأساس للرجال، خلق نمطاً للمرأة الجميلة المُشتهاة: طويلة ونحيفة وفاتحة البشرة وشقراء ذات عيون ملونة بالطبع، وجسدها متناسق لا تظهر فيه غلطة أو علامة أو نُدبة.
مع أثر العولمة وانتقال رأس المال إلى ما يضمن له مزيداً من المال، ركزت ماكينة الدعاية الخاصة بالموضة وصناعات التجميل والماكياج وغيرها من الصناعات الموجهة إلى النساء على تكريس هذا النمط مع اختلافات طفيفة، وفي حين تغيّر الكثير في دور المرأة الاجتماعي، إلا أن ثقتها في جسدها مقارنةً بالصورة الذهنية السائدة أخذت تقل.
في الحقيقة، انضمت وسائل التواصل الاجتماعي منذ عشر سنوات على الأقل إلى هذهِ العوامل الضاغطة، فمن منا لم يقضِ جزءاً كبيراً من وقته على فيسبوك، أو بالأخص إنستغرام، مفكراً في أن حياته بائسة أو أنه يجب أن يظهر بصورة أجمل؟
اقــرأ أيضاً
أظهرت دراسات حديثة في جامعات أسترالية وإنكليزية، أن الفتيات في العادة يعرفن أن الصور التي ينشرها مقرّبون على فيسبوك، ليست إلا إظهاراً لأفضل ما فيهنّ، فهن يعرفن تفاصيل حياتهن اليومية التي بالتأكيد فيها لحظات أقل سحراً من الموجودة على حساباتهن، بينما على إنستغرام، فمتابعة المؤثرين influencers أو المشاهير ومشاهدة الصور التي يمارسون فيها الرياضة أو يبدون متألقين دائماً بشعر مصفف بعناية وبشرة لا تشوبها شائبة، تدفعهن إلى مقارنة أنفسهن بهذه الصور، ما يجعلهن يحكمن على أجسادهن بشكل سلبي، ويشعرون أنهن لسن جميلات بما يكفي وتنحدر معدلات ثقتهن بأنفسهن.
اليوم، تحافظ شركات منتجات تجميلية عالمية، مثل "دوف"، أو أجهزة نسائية مثل "فيليبس"، على دراسة معايير الجمال ورؤية النساء أنفسهن لأجسادهن ولمظهرهن الخارجي، حرصاً من هذه الشركات على صناعة منتجات تلبي احتياجات السوق بدقة، ما يضمن أعلى قدرة على تحقيق الأرباح. في حين كشفت نتائج دراسة "دوف" الأخيرة لعام 2017 أن ثقة النساء في جمال أجسادهن تتراجع بسبب ضغط الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، ما يترتب عليه عدم القدرة على اتخاذ قرار أو المشاركة في أنشطة اجتماعية، إلا أن أكثر من 70% منهن يحاربن هذهِ المعايير النمطية ويطالبن شركات التجميل والموضة بإظهار التنوع في العِرق والعمر والشكل والحجم في الدعاية لمنتجاتهن، واستخدام "نساء عاديات" في هذهِ الدعاية، مثلما بدأت شركة دوف نفسها في حملات من هذا النوع منذ عام 2004.
أما تقرير"فيليبس" عن معايير الجمال والثقة لعام 2017، فقد وجد من ضمن نتائجه الهامة، أن النساء أصبحن يربطن مفهوم الجمال بالصحة النفسية والجسدية، ويبحثن عن الأجهزة والمنتجات والتطبيقات التي تساعدهن في تغيير نمط حياتهن إلى الأفضل، سواء من حيث التغذية أو ممارسة التمارين الرياضية، في حين أن نسبة ليست قليلة منهن ما زالت تعاني من ضغط المجتمع والإعلام والمشاهير على الصورة الجمالية التي يجب أن تبدو بها.
اقــرأ أيضاً
قد تبدو الصورة أقل مما نستحق، لكن تطوّر البشريّة ونضال النساء حول العالم لتغيير معايير الجمال أتى بعضٌ من ثماره، وما زال في طريق تحقيق المزيد من المكاسب، فأصبحت ماركات الأزياء العالمية تحتفي بالنساء الممتلئات أو ذوات البشرة الداكنة، وتضمن وجودهن في عروض الأزياء الخاصة بهن، وإضافة مقاسات كبيرة في ملابسهن، مثل "دولتشي آند غابانا"، وسافاج لريهانا، وعلى استحياء تبعتهم فيكتوريا سيكريت في محاولة لإظهار فتيات "عاديات" على الممشى السحري، وتحوّل الشعر الطبيعي المموّج (الكيرلي) إلى علامة جمال في المنطقة العربية التي كانت تفضّل العكس تماماً.
ربما لا تهتم ريهام سعيد أو السلطة التي تحاول أن تتملّقها بصحة النساء الجسدية والنفسية، لكن محاولة تغير هذا الخطاب يجب ألا تتوقف، أن تكوني جميلة، يعني أن تحتفي بذاتك أولاً، فالجمال نسبي وليس خاضعاً لمقاييس موحّدة معيّنة، لكل امرأة ما يميّزها، وما يجعل منها هي، بندوبها، أو بآثار حب الشباب على وجنتيها، ببشرتها الداكنة أو بشعرها شديد البياض، سيظل الجمال أولاً وأخيراً في عين الرائي.
اختلفت الصورة الجمالية للمرأة بعد ذلك، فمن الإعجاب بالمرأة المتناسقة، أو الأخرى ذات الملامح الذكورية، إلى التشبيه بالظبية والغزال وغصن البان والإعجاب الشديد بالنحافة والرشاقة، حتى قال شاعر في العصر الأموي: "وفي المرطِ منْ ميٍّ توالي صريمةٍ... وفي الطَّوقِ ظبيٌ واضحُ الجيدِ أحورُ / وبينَ ملاثِ المرطِ والطَّوقِ نفنفٌ... هضيمُ الحشا رأدُ الوشاحينِ أصفرُ". هذه الأبيات التي تفخر بطول ظهر الحبيبة وجذعها الذي يتوسطه خصرها النحيل وبطنها المطيب الضامر، ويصف ما بين عجيزتها وصدرها كأنه انحدار جبل شاهق، ما يدل على شدّة نحافتها!
تنقلب الصورة مرة أخرى، وصولاً إلى الماضي القريب، وفي ما يخص المرأة العربية والمصرية أيضاً بالتحديد في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، حيث كان وزن المرأة علامة على "العِز"، وعلى أنها جاءت من بيت غني، وبالتالي كان الرجال ينجذبون بشكل واضح إلى النساء الممتلئات، حتى وإن كانت راقصة أو مغنيّة، فلنعد قليلاً إلى غراميات سي السيد و"جليلة العالمة" في ثلاثية نجيب محفوظ، أو حتّى "السلطانة زبيدة" بعدها، حيث كان الوزن الثقيل له هيبة، والنحافة دلالة على وضاعة الأصل، أو الفقر المدقع، أو الاثنين معاً، وكانت العظام الظاهرة في الكتفين أو نحافة الرقبة مثار سُخرية.
في ذلك الزمن، كانت النساء مكنونات في البيوت، تنحصر أدوارهن الاجتماعية في الاعتناء بالبيت والرجل وتربية الأولاد، حتى بدأت الحركات النسائية في أوائل القرن العشرين تنتشر في جوانب مختلفة من العالم، وخرجت النساء إلى المجال العام مطالبات بالمساواة والحقوق المدنية والسياسية. ففي الولايات المتحدة مثلاً، تزامن انتقال الذوق العام لتفضيل المرأة النحيفة مع الحركة النسوية منذ بداية العشرينيات وحتى الستينيات من القرن الماضي. وفي حين كان الشِعر والأدب المدخلين الرئيسيين لمعرفة تاريخ معايير الجمال الأنثوية في زمنٍ سابق، ظهرت السينما ومن بعدها التلفزيون، وبدأت صناعة الإعلانات الوليدة في تكوين بعض المعايير الخاصة بها أيضاً والتأثير على صورة المرأة الذهنية في المجتمع.
هل تذكرون العصر الذهبي لأرانب البلاي بوي؟ Playboy bunnies. برغم مساهمة هيو هيفنر الواضحة في تثوير الحريات الجنسية في الخمسينيات والستينيات، إلا أن الانتشار الواسع لهذهِ المجلة وتوجهها بالأساس للرجال، خلق نمطاً للمرأة الجميلة المُشتهاة: طويلة ونحيفة وفاتحة البشرة وشقراء ذات عيون ملونة بالطبع، وجسدها متناسق لا تظهر فيه غلطة أو علامة أو نُدبة.
مع أثر العولمة وانتقال رأس المال إلى ما يضمن له مزيداً من المال، ركزت ماكينة الدعاية الخاصة بالموضة وصناعات التجميل والماكياج وغيرها من الصناعات الموجهة إلى النساء على تكريس هذا النمط مع اختلافات طفيفة، وفي حين تغيّر الكثير في دور المرأة الاجتماعي، إلا أن ثقتها في جسدها مقارنةً بالصورة الذهنية السائدة أخذت تقل.
في الحقيقة، انضمت وسائل التواصل الاجتماعي منذ عشر سنوات على الأقل إلى هذهِ العوامل الضاغطة، فمن منا لم يقضِ جزءاً كبيراً من وقته على فيسبوك، أو بالأخص إنستغرام، مفكراً في أن حياته بائسة أو أنه يجب أن يظهر بصورة أجمل؟
أظهرت دراسات حديثة في جامعات أسترالية وإنكليزية، أن الفتيات في العادة يعرفن أن الصور التي ينشرها مقرّبون على فيسبوك، ليست إلا إظهاراً لأفضل ما فيهنّ، فهن يعرفن تفاصيل حياتهن اليومية التي بالتأكيد فيها لحظات أقل سحراً من الموجودة على حساباتهن، بينما على إنستغرام، فمتابعة المؤثرين influencers أو المشاهير ومشاهدة الصور التي يمارسون فيها الرياضة أو يبدون متألقين دائماً بشعر مصفف بعناية وبشرة لا تشوبها شائبة، تدفعهن إلى مقارنة أنفسهن بهذه الصور، ما يجعلهن يحكمن على أجسادهن بشكل سلبي، ويشعرون أنهن لسن جميلات بما يكفي وتنحدر معدلات ثقتهن بأنفسهن.
اليوم، تحافظ شركات منتجات تجميلية عالمية، مثل "دوف"، أو أجهزة نسائية مثل "فيليبس"، على دراسة معايير الجمال ورؤية النساء أنفسهن لأجسادهن ولمظهرهن الخارجي، حرصاً من هذه الشركات على صناعة منتجات تلبي احتياجات السوق بدقة، ما يضمن أعلى قدرة على تحقيق الأرباح. في حين كشفت نتائج دراسة "دوف" الأخيرة لعام 2017 أن ثقة النساء في جمال أجسادهن تتراجع بسبب ضغط الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، ما يترتب عليه عدم القدرة على اتخاذ قرار أو المشاركة في أنشطة اجتماعية، إلا أن أكثر من 70% منهن يحاربن هذهِ المعايير النمطية ويطالبن شركات التجميل والموضة بإظهار التنوع في العِرق والعمر والشكل والحجم في الدعاية لمنتجاتهن، واستخدام "نساء عاديات" في هذهِ الدعاية، مثلما بدأت شركة دوف نفسها في حملات من هذا النوع منذ عام 2004.
أما تقرير"فيليبس" عن معايير الجمال والثقة لعام 2017، فقد وجد من ضمن نتائجه الهامة، أن النساء أصبحن يربطن مفهوم الجمال بالصحة النفسية والجسدية، ويبحثن عن الأجهزة والمنتجات والتطبيقات التي تساعدهن في تغيير نمط حياتهن إلى الأفضل، سواء من حيث التغذية أو ممارسة التمارين الرياضية، في حين أن نسبة ليست قليلة منهن ما زالت تعاني من ضغط المجتمع والإعلام والمشاهير على الصورة الجمالية التي يجب أن تبدو بها.
قد تبدو الصورة أقل مما نستحق، لكن تطوّر البشريّة ونضال النساء حول العالم لتغيير معايير الجمال أتى بعضٌ من ثماره، وما زال في طريق تحقيق المزيد من المكاسب، فأصبحت ماركات الأزياء العالمية تحتفي بالنساء الممتلئات أو ذوات البشرة الداكنة، وتضمن وجودهن في عروض الأزياء الخاصة بهن، وإضافة مقاسات كبيرة في ملابسهن، مثل "دولتشي آند غابانا"، وسافاج لريهانا، وعلى استحياء تبعتهم فيكتوريا سيكريت في محاولة لإظهار فتيات "عاديات" على الممشى السحري، وتحوّل الشعر الطبيعي المموّج (الكيرلي) إلى علامة جمال في المنطقة العربية التي كانت تفضّل العكس تماماً.
ربما لا تهتم ريهام سعيد أو السلطة التي تحاول أن تتملّقها بصحة النساء الجسدية والنفسية، لكن محاولة تغير هذا الخطاب يجب ألا تتوقف، أن تكوني جميلة، يعني أن تحتفي بذاتك أولاً، فالجمال نسبي وليس خاضعاً لمقاييس موحّدة معيّنة، لكل امرأة ما يميّزها، وما يجعل منها هي، بندوبها، أو بآثار حب الشباب على وجنتيها، ببشرتها الداكنة أو بشعرها شديد البياض، سيظل الجمال أولاً وأخيراً في عين الرائي.