لنتّفق بداية أن لا شماتة في المرض. أي مرض، سرطانا كان، أم نزلة صدرية، تحديداً أمام عجز الجسد البشري في أوقات كثيرة عن خوض صراع متوازن مع البكتيريا والميكروبات والأورام. ولنتّفق أيضاً أنّ المرض، حالة حميمة جداً، بين المريض وجسده، وأن مناقشته في الفضاء العام انتهاك لهذه الحميمية.
أمّا وقد وضّحنا فكرة الشماتة والحميمية، لننتقل إلى أسماء الأسد، زوجة رئيس النظام السوري بشّار الأسد.
السيدة أسماء مريضة. السرطان تسلّل إلى جسدها أيضا، وبدأت رحلة علاج في دمشق، في مستشفى تشرين العسكري، وفق ما ذكرت تقارير محلية. لا بلاغة أكبر من صورتها في هذا المستشفى. هناك حيث يُنقل ضحايا التعذيب في سجون المخابرات السورية. من يعرف ربما على السرير الذي جلست عليه، سبقها معارض نام هنا، فغطت دماؤه الشراشف البيضاء، أو ربما لفظ أنفاسه الأخيرة، قبل أن يضاف اسمه إلى أسماء آلاف الضحايا والمفقودين.
ما علينا، المهمّ، تذهب أسماء الأسد إلى جلسات العلاج الكيميائي، جنباً إلى جنب مع مصوّر خاص، يلتقط لها لقطات "عفوية جداً"، وهي تمسك بيد زوجها في المستشفى، أو وهي تقف في الطابور، منتظرة دورها لدخول المستشفى، فتلقي التحية على نساء أخريات، مصابات بالمرض هنّ أيضاً.
أنيقة دائماً أسماء الأسد، حتى وقد تساقط شعرها نتيجة العلاج، وشحب لون وجهها، وخسرت وزناً إضافيا. الابتسامة الرقيقة لا تفارق وجهها.
الابتسامة هي هي. ثابتة على الوجه الجميل، رأيناها عام 2016، وهي إلى جانب زوجها، أثناء الإدلاء بصوتها في الانتخابات البرلمانية عام 2016. ورأيناها في العام نفسه، أثناء مقابلتها الأولى منذ اندلاع الثورة السورية، على "روسيا 24". كانت تبتسم، وهي تتحدّث عن أعمالها الإنسانية والخيرية، وعن "الأسى الذي تشعر به عند رؤية الأيتام والأرامل". كانت تبتسم وقتها برقة، بينما زوجها يواصل رمي البراميل المتفجّرة على مدينة حلب.
لكن أسماء الأسد ليست بشار الأسد. هكذا يقولون. هي سيدة لا حول لها ولا قوة، مثلها مثل أغلبية النساء العربيات. لم تقم هي بالحرب، ولم تقتل السوريين، ولم تعط أوامر بالاعتقال والتعذيب. هي حبيبة السوريين. يصلون لها يومياً ويضيئون لها الشموع ليشفيها الله من تعبها. نساء سوريات عرضن بشكل علني التبرّع بأثدائهنّ لها، بدل ثديها المصاب بالسرطان.
حتى شخصيات مناصرة للثورة السورية، دعت لها بالشفاء، مراراً. ألم نقل من البداية، أن لا شماتة بالمرض؟
لا شماتة في المرض، لكن أيضاً لا سذاجة في قراءة التاريخ. اسمها أسماء الأخرس. إيمّا، كانت زميلاتها في لندن ينادينها، وفق ما نقلت صحيفة "الغادريان" عن واحدة منهن في تقرير نشرته في أكتوبر/تشرين الأول 2011.
في ديسمبر/كانون الأول 2000، وبعد 5 أشهر من وراثة بشار الأسد لرئاسة الجمهورية عن والده الراحل حافظ الأسد، أصبحت أسماء الأخرس رسمياً السيدة السورية الأولى، أسماء الأسد. طيلة 11 عاماً كانت السيدة الشقراء الجميلة هي واجهة نظام القمع السوري، بنسخته الأكثر شباباً. ملابسها الأنيقة، شعرها الممشّط دائماً بخجل وعناية، تبرّجها الطبيعي وغير المبالغ فيه، وصوتها المنخفض كدليل على رقيها الذي اكستبته من حياتها البرجوازية في لندن.
بشكلها الجميل، وغير الوقح، ونشاطها الخيري المتدفّق، رسمت صورة مشرقة لنظام زوجها الدموي، منذ العام 2000. السيدة السنية وزوجها العلوي، سعيدَين في سورية العلمانية، وحولهما جحافل المواطنين المستعدين لفداء الرئيس "بالروح بالدم" حتى قبل الثورة.
توّجت هذه المسيرة بمقابلة مجلة "فوغ" العالمية مع أسماء الأسد في فبراير/شباط 2011، "وردة في الصحراء"، وهل من عنوان آخر يليق بسيدة سورية الأولى؟ لكن بعد أشهر قليلة اختفت المقابلة. تبخّرت عن كل المواقع، حذفها موقع "فوغ" وحذف كل الروابط التي توصل إليها. تبخّرت كأنها لم تكن يوماً. أخفتها "فوغ" خجلاً، وذبلت "وردة الصحراء" تحت دماء السوريين، التي بدأت تسيل في الشوارع منذ شهر مارس/آذار 2011، مع اندلاع الشرارة الأولى لثورة السوريين عن نظام زوجها، بشار حافظ الأسد.
مقابلة "فوغ" مع الأسد (تويتر)
اختفت أسماء. بدأت تخرج أخبار أنّ السيدة الأولى الرقيقة لم تحتمل عنف زوجها. هي غاضبة، وتريد الرحيل مع أولادها، والعودة إلى لندن. بدا الجميع متعاطفاً معها، حتى عندما أرسلت بياناً مقتضباً للصحف الغربية مفاده أنها "تدعم زوجها".
لكن لحظة نشر صحيفة "الغادريان" البريطانية، لإيميلات الرئيس السوري المسرّبة، بعد عام من انطلاق الثورة، في مارس/آذار 2012 تغيرت الصورة. السيدة الأولى كانت تتابع حياتها بشكل طبيعي: تشتري الأثاث والمجوهرات باهظة الثمن عبر الإنترنت، وتعبّر عن حبها لزوجها، في مراسلات بينهما، بينما يرسل لها هو موسيقاه المفضلة لتسمعها. علاقة طبيعية جميلة بين أي زوجين شابين مغرمين، بينما كانت النيران تلتهم سورية والزوج الشاب يتحول بخطى واثقة من دكتاتور، إلى مجرم حرب.
في مقابلتها إياها مع "روسيا 24" تساءلت أسماء الأسد عن السبب الذي يجعل الإعلام الغربي يركّز على انتقادها بدل تغطية "نشاطها الإنساني". قالتها بحسرة، وبعينين مذهولتين. وقالتها بعد خمس سنوات من انطلاق الثورة.
في لحظة قوّة أطلّت أسماء الأسد لتتحدّث للمرة الأولى، في ذلك الوقت الذي أصبح فيه الدعم الروسي يحقق مكاسب للنظام، أطلّت على شاشة روسيّة لتخاطب شعبها، سمعوا صوتها، واستمعوا إلى ما لديها بعد كل هذه السنوات، وبعد كل هذه الدماء. لم تحرّض، لم تشتم، ولم تشمت، لكنها بقيت هناك إلى جانب القاتل الكبير: هي مع زوجها، هي مع الحكومة السورية، هي مع النظام السوري، هكذا قالت. بهذا الوضوح الذي لا يحتمل تأويلاً.
لا نعرف الكثير عن دور أسماء الأسد في إبادة السوريين. لا نعرف طبيعة النقاشات التي خاضتها مع زوجها (إن حصل) منذ العام 2011. لم نكن هناك لنرى تعابير وجهها، والنظام السوري يفرج عن أسماء آلاف السوريين والفلسطينيين الذين قتلهم في سجونه. هل كانت تستمع إلى مكالمات زوجها مثلاً مع قادة الجيش السوري؟ هل كانت إلى جانبه وهو يتلقى أخبار "الانتصارات" في حمص وحلب وحماة والغوطة؟ كانت هناك طبعاً. هي من قالت، "أنا إلى جانب الرئيس السوري".
لا شماتة في المرض. أسماء الأسد مريضة بالسرطان وهذا شأنها، وإن حاولت أن تجعل من الموضوع شأناً عاماً مع نشر صورها مراراً. ما يعنينا أنها أسماء زوجة بشار الأسد. شريكته في الحكم في سنوات الدكتاتورية الناعمة، وشريكته في سنوات القتل والدم والخراب. هي وجه النظام الآخر في المرآة. أسماء الأسد شريكة في كل هذا الموت.