مكتبة الإسكوريال... منجم مذهل للتاريخ وللمخطوطات العربية

21 نوفمبر 2015
كنوز معرفية عربية قرصنتها إسبانيا (دنيس دولي/ Getty)
+ الخط -
على بعد ساعة من مدريد، المدينة عربية الاسم والتاريخ، إسبانية اللغة والحاضر، ينده عليك، يا أيها العربي القادم للبحث في أندلسك عنك، منجم مذهل للكتب وللفن، ويقول لعينيك وروحك تعال نقب في ما استطعت واحفر أكثر وأكثر في باطن الزمن، كي تجد نفسك مرة ثانية لكن بملاح أجمل وأعمق وبأجنحة وسماء خسرتموها في هذا الزمن، وكي تعرف كم سرق هذا العالم من ملامحك، ثم عاد ليتكرم عليك ويهديك نسخة ميكروفيلمية عنها. 

تسلك طريقاً صاعدة لتصل جبلا يقف مغرورا بقصر فوقه، يزيده علوا ووقارا، إنه قصر الإسكوريال، أو قصر الملك فيليب الثاني، الذي بناه عام 1584ميلادية، كي يحفظ فيه تاريخ إسبانيا وكي يبقى درة في عنق الزمن، فهو بناء كبير جدا يحتوي على عدد كبير من الصالات والنوافير والحدائق والأبراج، ولكن أهم ما فيه هو مكتبة الإسكوريال.

اقرأ أيضاً: برشلونة الساحرة مدينة لا تتكرر


إن الإسكوريال اسم يعني في اللغة الإسبانية منجم الحديد، لذا فهو اسم هذا الجبل الذي يحتفي بقصره العظيم، والذي يعتبر أكبر منجم للحديد في إسبانيا. لكن، ما لن تصدقه هنا هو وجود مكتبة من أغنى مكاتب العالم للمخطوطات القديمة، إذ إنها تحتوي الآن على أكثر من ثلاثة آلاف مخطوطة، معظمها من أهم المخطوطات العربية في القرن الخامس والسادس الهجري.


تجد فيها مخطوطات بالغة الأهمية المعرفية والتاريخية، وأن تكون النسخ الأصلية من هذه المخطوطات والموجودة هنا هي النسخ الوحيدة في العالم، ولا توجد أبدا نسخ أخرى في كل مكتبات العالم العربي، فأية دهشة وابتهاج عميق سيسكن قلبك حين تعرف أن كتاب ابن خلدون "لُباب المحصَّل" (مختصر محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين لفخر الدين الرازي)، المخطوط بخط بيد ابن خلدون شخصياً وبقلم مغربي سنة 752 هجري، جالس هنا على أهم رفوف المكتبة في قسم المخطوطات القديمة الأثرية بالغة الأهمية، ككنز هو أكثر من أن يوصف، وعلى الجهة المقابلة يجلس كتابان هما أهم ما كتبه العرب في الطب، "القانون" لابن سينا، و"منافع الأعضاء" لغالينوس، وفي الصدر هناك كتاب "شرح رسالة غالينوس إلى أغلوقن في التأني لشفاء الأمراض" لعلي بن رضوان، الذي كتب عام 483 هجرية، و"شرح فصول أبقراط"، لغالينوس، ترجمة حنين بن اسحاق العبادي، الذي كتب عام 494 هجري، وستجد الكثير من ذهب المخطوطات وفضة المعرفة، وحين تسأل عن سبب احتواء مكتبة إسبانية على أهم المخطوطات العربية المكتوبة في عصر لم يكن العرب فيه سكانا لأندلسهم الضائعة، سيأتيك جواب هو أوّلاً حرص الملك فيليب، صاحب هذا القصر، على اقتناء أهم المخطوطات في العالم والحفاظ عليها، وحمايتها الشديدة في كل الأوقات بما فيها أوقات الحروب، وحرص إسبانيا لاحقا على استقلالية حكم هذه المكتبة، وذلك بعدم السماح للكنيسة أو حتى لبلدية إسكوريال بالتحكم بها، ولكن الأهم هو ما حصل للملك المغربي، زيدان السعدي، حين قامت عليه ثورة ابن أبي محلي عام 1612ميلادية في بلده، وهرب مستجيرا بفرنسا حاملاً معه أهم ذخائره في صناديق، والتي هي عبارة عن أكثر من خمسة آلاف مخطوطة جمعها من كل أصقاع الأرض، وبكل اللغات العالم، بالإضافة إلى مكتبة أحمد المنصور الذهبي، الذي قايضها مقابل الذهب، لكن السفينة التي حملت هذه المكتبة تعرضت للقرصنة من قبل سفينة حربية إسبانية والتي اعتقد الملاحون فيها أنها ذهب، لكنهم دهشوا حين اكتشفوا أنها مجموعة هائلة من المخطوطات والكتب، التي قدموها فيما بعد للملك فيليب، الذي حافظ عليها بدوره بالإضافة إلى كل الكتب العربية الإسلامية القديمة الهامة، التي جمعها من غرناطة وإشبيلية، ووضعها بطريقة تليق بها ضمن مكان يحتوي من الجمال والأبهة بما يليق بالجمال المعرفي، الذي تخزنه هذه الكتب، التي يعرف هو أنها منارة أوروبا الأولى في اكتشاف معرفتها الحديثة، لكنه بالمقابل احتفظ بها لبلده وحرم المغرب، البلد العربي وصاحب الحق الحقيقي فيها.

مؤخرا قامت الحكومة الإسبانية بفهرسة المكتبة، ونقل محتوياتها على ميكروفيلمية كاملة، وتقديمها كهدية للمغرب كي تضاف إلى مكتبة المغرب الملكية، كما أن الملكة صوفيا حينها، قامت بإهداء هذه النسخة أيضاً إلى مكتبة الإسكندرية، ليكتمل هذا المشهد الغريب جدا حين نتحول إلى أمة تأخذ الأمم الأخرى كنوزها المعرفية منها، ثم تمنّ عليها بإهدائها نسخة ميكروفيلمية عنها، فلا نملك إلا أن نهلل لهذه المبادرات الكريمة.

اقرأ أيضاً: قصر الحمراء.. حاضرة أندلسيّة لم تسلم مفاتيحها
المساهمون