"مهرجان أمستردام الوثائقي الـ31": تاريخٌ وحكايات

19 نوفمبر 2018
سيرغي لوزنيتسا: كشف الجريمة وثائقياً (الموقع الإلكتروني للمهرجان)
+ الخط -
استعادة الماضي، الفردي والجماعي، سمة أفلام عديدة مُشاركة في الدورة الـ31 (14 ـ 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018) لـ"مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية". بعض الغرب مولع بهذا، تمامًا كبعض الشرق والعرب. العائلة محورٌ، والتاريخ الشخصي دافعٌ إلى نبش تاريخ قديم، وإنْ يكن المُقدَّم بعد هذا النبش معروفًا ومتداولاً أحيانًا. التاريخ حيٌّ. هذا مطلوبٌ غالبًا، لكن خصوصًا في ظلّ راهن مرتبك، وجزءٌ من الراهن متأتٍ من أسئلة مُعلَّقة في التاريخ القديم والحيّ نفسه. 
لن تشمل الاستعادةُ الأفلامَ كلّها، فهي مُثيرة للانتباه في أفلام معروضة في الأيام القليلة الأولى للدورة الجديدة. استعادة تتّخذ شكّلين وثائقيين سينمائيين: محاكمة جديدة تتّضح في طيات السرد التوثيقي، واكتفاء تام بالتقاط بعض المبطّن والمخفيّ في الذاكرة والماضي، بمنحه حيوية سينمائية ترتكز، أحيانًا، على التحريك. المحاكمة غربيّة غالبًا، بينما التقاط فصول من الذاكرة والتاريخ (الفرديين غالبًا) مكتفٍ بالنبش والسرد كي تُفهم مجريات حكايات مختلفة، كنوع من مصالحة مع الذات بالنسبة إلى مخرجٍ يتوق إلى ترميم حكايته/ حكاية العائلة.

نتاجٌ وثائقي يتراوح بين اعتماد شبه تام على مفردات كلاسيكية في مقاربة الماضي، بالاستعانة بأرشيف مُصوّر أو بمحاورة الشخصية المختارة ومتابعة تفاصيل من سيرتيها الحياتية والمهنية. النمساوية روث بكرمان (1952) تنتبه إلى فصلٍ "شنيع" من سيرة كورت فالدهايم (1918 ـ 2007) يتعلّق بتعاونه مع النازيين في الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، من دون تقديم جديدٍ يُذكر، إذْ تكتفي بأرشيف قديم يعكس وقائع تلك المرحلة (الاتهام والمطاردة والحملات الشنيعة ليهود نافذين) مُقدِّمة إياه بتوليف يسرد الحكاية المعروفة ("فالس فالدهايم"، 2018). الثنائي روب ميلر وهنري سينغر "يُطاردان" القائد العسكري الصربي راتْكو مْلاديتس (1942)، المتّهم بمسؤوليته المباشرة عن "مجزرة سْربرينتزا" المرتكبة في يوليو/ تموز 1995 (8000 قتيل) أثناء "حرب البوسنة" (1992 ـ 1995)، ويُقدّمان وجهتي نظر متضاربتين: عائلات الضحايا والشهود والمتضرّرين، في مقابل عائلة المتهم وداعميه ومناصريه الذين يعتبرونه بطلاً. لكن "محاكمة راتْكو مْلاديتس" (2018) يطرح سؤالاً معلّقًا: "هل يُمكن أن تُمنح العدالةَ لقضيةٍ ما، إنْ لم يعترف المتّهم بقرار المحكمة"؟

هناك أيضًا البرازيلية ماريا راموس (1964)، التي تُسلّط الضوء مجدّدًا على فساد ديلما روسّيف (1947)، الرئيسة السابقة للبرازيل (2011 ـ 2016) في "المحاكمة" (2018)، بينما يختار الألماني وارنر هرتزوغ (1942) ميخائيل غورباتشوف (1931)، حاكم الاتحاد السوفييتي السابق (1985 ـ 1991) والمسؤول الأول عن دفنه، في حوار مُصوَّر في 3 جلسات، تتناول أحوال الرجل وراهنه، ودوره الأساسي في إعادة توحيد ألمانيا ("لقاء غورباتشوف"، 2018). أما الأوكرانيّ سيرغي لوزنيتسا (1964)، فينطلق في "محاكمة" (2018) ـ العنوان نفسه لفيلم راموس ـ من أرشيف مليء بالوثائق المطلوبة، لكشف شيء من أحوال سجناء سياسيين في روسيا الستالينية، بين عامي 1936 و1938.

هذه وقائع تاريخية. الفيلم الوثائقي أقدر على استعادة الماضي لقراءته مجدّدًا، بالاستناد إلى وثائق ومعطيات. الدورة الـ31 للمهرجان الوثائقي الأهم في المشهد السينمائي الدولي انعكاس لحالة ملحّة في لحظة تبدّلات آنية وخطرة، يُعاني العالمُ انعكاساتها الصاخبة. العودة إلى الماضي لعبة سينمائية خطرة: تأكيد المؤكّد غير مفيد وإنْ يُذكِّر بحدثٍ أو مسألة حاضرة في وجدان كثيرين. النبش في المخبّأ مدخلٌ إلى فضح الماضي في محاولة مصالحة مع الذات، فردًا أو جماعة. تقديم الجديد؟ هذا مطلوب ومهم. لكن هذا خطر بدوره أيضًا، فهل يكتفي النتاج الوثائقي بتقديم المعطيات سينمائيًا، أم أنه يخرج على المعطيات بهدف إجراء محاكمة، أو التشنيع مجدّدًا بمن شُنِّع به سابقًا؟ الخطوط الفاصلة بين هذه الأمور واهية. لكن التوثيق، باعتماده على فعل سينمائيّ في المونتاج والسرد والبناء الدرامي للحكاية المرتكزة على وثائق ومعلومات، يبقى الأهمّ، فهو عمل بصري مفتوح على جماليات الوثائقي وإلحاح الذاكرة في الظهور والكشف.

الفعل الجُرمي لن يكون وحيدًا، وإن يطغَ على ما عداه. الحوار بين الألماني هرتزوغ والروسي غورباتشوف أشبه بحوار السينما مع التاريخ والجغرافيا والثقافة والاجتماع والسياسة. محاكمة الجنرال مْلاديتس تصبّ في تساؤلات حسّاسة: ماذا تعني المحاكمة؟ هل هي مفيدة طالما أن عوامل مختلفة تتدخّل فتعرقل الهدف الأخلاقي والإنساني منها؟ الجريمة واقعةٌ، ومحاسبة مرتكبيها ضرورية. لكن فن التوثيق السينمائيّ، بمفرداته الجمالية المختلفة، قادرٌ على تحصين الذاكرة من الاندثار، وعلى إبقاء المسائل حيّة في نفوس وانفعالات، وعلى "محاكمة أخلاقية سينمائية" وإنْ تكن مبطّنة.

رغم قسوة التاريخ، القديم والحديث، تُثير أفلام وثائقية عديدة متعًا بصرية وانفعالية لجمالياتها السينمائية. هذا حاضرٌ في سينما عربية جديدة، يُراد لها أن تصنع نمطًا مختلفًا في التعامل مع الحكايات الفردية، يرتكز (النمط) على تحويل الذاتيّ ـ الحميميّ إلى قراءة اجتماع وعلاقات وقواعد متحكّمة بتربية وسلوك. "غرفةٌ لرجلٍ" للّبناني أنتوني شدياق مثلٌ أول: علاقة المخرج بأفراد عائلته تستعيد تاريخًا من الخلل والتفكّك والتناقضات. "طريق البيت" للسوري وائل قدلو مثلٌ ثان: الخلل والتفكّك والتناقضات حاضرة هي أيضًا في استعادة المخرج حكايته المعطّلة بين أهل وأقارب، من دون التغاضي ـ في اللقطات الأخيرة ـ عن الحراك السوري المدني وأسئلته. "أنا وقّعت على العريضة" للدنماركي الفلسطيني مهدي فليفل مثلٌ ثالث: توقيع المخرج على عريضة تطالب فرقة فنية بمقاطعة إسرائيل تُثير فيه قلقًا وتساؤلات يحاول الإجابة عنها عبر اتصال هاتفي يُجريه من برلين مع فارس، صديقه المقيم في إنكلترا.

الذاتي البحت مدخل إلى كشف الذات أولاً، وبالتالي إلى فهم الحيّز ـ المكاني والثقافي والإنساني والأخلاقي ـ المحيط بها. بعض الأمثلة السابقة علامات في كيفية صناعة الوثائقي المنخرط في جماليات الصورة في سرده الحكايات. النتاج العربي مُثير لمزيد من النقاش والحوار النقدي، فهو منبثقٌ من رغبة في جعل الصورة مجالاً أرحب للبوح.
دلالات
المساهمون