"صيف" و"حرب باردة" في "كانّ 71": سطوة الموسيقى

14 مايو 2018
من "صيف" للروسي كيريل سيريبْرينيكوف (الموقع الإلكتروني لمهرجان "كانّ")
+ الخط -
تحتلّ الموسيقى وعوالمها المختلفة مكانةً أساسية في فيلمين مشاركين في المسابقة الرسمية للدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) لمهرجان "كانّ" السينمائي. فهي، بحضورها البارز، تعكس شيئًا من وقائع السياسة والانشقاق الصداميّ غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، من دون توغّل عميق في تفاصيل "الحرب الباردة" الناشئة بسببها. وهي، بتحوّلها إلى نواة درامية متكاملة، تقول حراكًا فنيًا وثقافيًا وإنسانيًا في بلدٍ يتململ ناسه من شدّة البطش والانغلاق، ويعثر بعض شبابه ـ في أنماطٍ موسيقية وغنائية "غربيّة" ـ ملاذًا من موتٍ، ومنفذًا لعيشٍ، وتحريضًا على إبداع. 

بالإضافة إلى هذا، تختار الموسيقى (والغناء والتأليف والشعر والتأمّل، إلخ.) أزمنةً لفعل سينمائي يُحاكي الواقع والتاريخ والحقائق، أو لبوحٍ يخرج من المعروف إلى ما هو أرحب وأهمّ: الحبّ وإفرازاته وتأثيراته.

مُشترك آخر يُضاف إلى الموسيقى وزمن الأحداث، في فيلمي "صيف" لكيريل سيريبْرينيكوف و"حرب باردة" لبافل بافليكوفسكي، المتنَافِسَين ـ مع 19 فيلمًا آخر ـ على "السعفة الذهبية": الجغرافيا. فالأول حاصلٌ في روسيا بداية ثمانينيات القرن الـ20، والثاني يتّخذ من بولندا، نهاية أربعينيات القرن نفسه، منطلقًا لشغلٍ سينمائي مستندٍ إلى ثنائية الأسود والأبيض، وإلى توليف يُضفي مناخًا مأساويًا على لُبّ النصّ الأصليّ. الجغرافيا مهمّة، إنْ يُنظر إليها كمكان لحدثٍ لن يُحوّلها المكان والحدث إلى شخصية درامية وجمالية، رغم أن لقطات مختلفة تعكس جوانب باهرة من حضورها العفوي في التسلسل السرديّ.



وإذْ يرتكز "صيف" على وقائع حقيقية مرتبطة بموسيقى "روك" روسية زمن "التشدّد البريجنفيّ"، بناء على مذكرات إحدى المُشاركات في الحدث والشاهدات عليه، فإن "حرب باردة" يوحي باقترابه الحادّ من وقائع وحقائق، مستمدّة من قسوة النزاع القائم بين شرقٍ سوفييتي وغربٍ أميركي على أرضٍ أوروبية. وقائع "صيف" تبدو غريبة لشدّة حيويتها والمصائر الصادمة لشخصيات قليلة فيها؛ والمتخيّل السينمائي في "حرب باردة" يظهر أشدّ حقيقيةً من الواقع. كأن اللعبة متوافق عليها سلفًا، لكن من دون أي توافق مسبق بين المُخرِجَين، باستثناء ما يُمكن للمتخيّل البصري أن يُنتجه في أمكنة وأمزجة وبيئات وأنماط تفكير مختلفة.
التوليف المعتَمَد في "حرب باردة" (تقطيع المتتاليات البصرية إلى فقرات تنفصل عن بعضها البعض بلحظات معتمة لا مشاهد فيها ولا أحداث) يكاد يكون جانبًا آخر لمقاطع تشبه الـ"فيديو كليب" في "صيف"، مع اعتماد كبيرٍ على مغزى الصورة وجمالياتها السينمائية، وعلى حسّ السخرية المريرة التي يتمتّع بها كيريل سيريبْرينيكوف في مقاربته لحظة مفصلية في التاريخ الحديث لبلده.

يستعيد "صيف" حكاية لقاء غير متوقّع بين 3 شبانٍ يطمحون إلى إيجاد معنى آخر للموسيقى في زمنٍ سوفياتي قامع. الاستناد إلى مذكّرات ناتاليا نومنكو أساسيٌّ في إعادة تشكيل مسارٍ حياتي لأفراد قلائل، بعضهم غير مالكٍ لمعطيات مؤكّدة تتعلّق بسيرته. مايك نومنكو (رومان بيليك) وحبيبته/ زوجته ناتاشا (إيرينا ستارشنبوم) يلتقيان فيكتور تسوي (تيو يوو)، فتبدأ بينهم علاقة تتوزّع على التأليف والتلحين والتساؤلات والإعجاب والحب والارتباطات، في مسار سريع ينتهي مطلع التسعينيات، مع مقتل فيكتور في حادث سيارة.



ويعود "حرب باردة" إلى أعوام الخروج من خراب العالم، في النصف الثاني من الأربعينيات الفائتة، متوغّلاً في أحواله عبر قصّة حب بين الشابّة زُوْلا (جوانا كوليغ) وفيكتور (توماس كوت)، وعبر انغماسٍ في الغناء الشعبي لفرقة بولندية مؤلّفة من صبايا وشبانٍ منبوذين لكنهم يمتلكون مواهب في الغناء والموسيقى والرقص، قبل أن يستغلّ النظام القامع (التابع للاتحاد السوفييتي حينها) النجاح الكبير للفرقة، في الترويج الغنائي والدعائي له بأصوات بريئة لأفرادٍ مهمّشين.

السياسيّ شبه غائب عن المشهد المباشر في "صيف"، على نقيض حضوره شبه المباشر في "حرب باردة". فالمباشر يمنع السياسي من احتلال الصورة الخاصّة بانشغال شبانٍ في موسيقى الـ"روك" المقبلة إليهم من "غربٍ رأسمالي عدوٍ"، بينما شبه المباشر متوافقٌ والمسارات المضطربة والمعلّقة والملتبسة للثنائي زوْلا وفيكتور، في علاقتهما المتوترة، وفي حبهما المشتعل والمتخبّط في أوهام وفراغات وحيوية وتناقضات، وفي بحثهما ـ معًا، أو كلّ واحد منهما على حدة ـ عن معنى العيش والحياة، وعن معنى الموسيقى والكلمة، وعن معنى الهجرة والانقلاب أو الخضوع. القمع السوفياتي حاضرٌ في "صيف" عبر أفراد يمثّلون سلطة وفرضًا لنظام وسلوك؛ والقمع السوفياتي نفسه، وإنْ عبر نظام تابع، حاضرٌ في "حرب باردة" يبحث أناسها/ شخصيات الفيلم عن أنفسهم في قلب الغليان المنبثق من صدام "قاسٍ" و"بارد" بين مفهومين متناقضين للغاية عن الحياة والعيش والتفكير والسلوك.

للحبّ أيضًا مكانه في الفيلمين، إنْ بقوة وتصادم وشغف وحماسة مفتوحة على أقصى الممكن (حرب باردة)، أو بهدوء ممزوج بشغف آخر مرتبط بالموسيقى والغناء والعزف (صيف). الحبّ الأول مُتَبَادل بين طرفين اثنين فقط، يجدان نفسيهما في معمعة الانقلابات والتسلّط والمواجهة، بينما يحافظ الحبّ الثاني على نقاء شعريّ وصفاء انفعالي وقلق وجودي، تنتهي كلّها بموت غالبية الفاعلين فيه.

فيلمان يخرجان من عمق الموسيقى إلى مشاعر وانقلابات ورغبات، ويحاولان رسم ملامح عالمٍ يستمر في الأفول لغاية الآن.
المساهمون