عام بالكامل مر على جريمة اغتيال جمال خاشقجي (1958 - 2018)، الصحافي الذي تمّت معاقبته على آرائه السياسية. هكذا، وبعد اتهامات مباشرة وواضحة للنظام السعودي، بدأت تتسرّب أخبار عن خطط تحاك في الكواليس، تتضمن عملاً مؤسساتياً كاملاً يسعى إلى قلب الصورة، والتقليل من أهمية الجريمة.
البداية كانت من الإعلام السعودي الذي حاول تغيير البوصلة، وردّ الاتهامات عن المملكة، لكن سرعان ما تبيّن أن هذا السلاح غير كاف، فكانت الاستعانة بهيئة الترفيه، وبالمستشار تركي آل الشيخ لتلميع صورة السعودية.
في التسعينيات من القرن الماضي، استطاع الوليد بن طلال خرق الالتزام السعودي المناهض وقتذاك لأي فعالية فنية، من غناء وحفلات، وإنشاء واحدة من أكبر الشركات الفنية في العالم العربي، "روتانا"، التي ضمت أكثر من 100 فنان عربي من المحيط إلى الخليج. الخرق السعودي لم يؤخذ على محمل الجدّ يومها، على الرغم من غض النظر عن الحفلات التي كان يقيمها الوليد بن طلال في قصوره، وتُدرج تحت عناوين الحفلات الخاصة المرخصة بإذن أميري، والسماح بدخول الفنانين والغناء ضمن حفلات مقفلة، والدعوة إليها خاصة جداً. جميع أو معظم هذه الحفلات كانت تصور، وتخضع للمونتاج وتتفرد بها شاشات "روتانا" بشكل حصري، ما عزز حضور محطات الشركة التي سبقت معظم الإعلام السعودي، وتفردت بالذاكرة الفنية لأكثر من عشرين عاماً.
مثال "روتانا" في خلق صورة عالمية إيجابية عن بن طلال، لعلها ألهمت ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، فاختار عقب اغتيال خاشقجي تفعيل دور هيئة الترفيه، لتقدّم عشرات الفعاليات الغنائية لأبرز النجوم في العالم العربي. ماجدة الرومي كانت من أوائل المهللين للنظام السعودي في حفلة رُصدت لها الملايين من العملة الصعبة، وتبعتها سلسلة من المهرجانات لمجموعة من المغنين الأجانب والعرب.
الهيئة التي أنشئت في السادس من مايو/ أيار 2016، "بهدف تطوير وتنظيم قطاع الترفيه ودعم بنيته التحتية في المملكة، وذلك بالتعاون مع مختلف الجهات الحكومية والقطاع الخاص، وفق استراتيجيتها المعتمدة، الهادفة إلى المساهمة في تحسين جودة الحياة في المملكة"، بدت لاعباً أساسياً في تحسين صورة السعودية وصورة ولي العهد نفسه. الأمير الشاب الذي قدّم نفسه منذ اللحظة الأولى راعياً وعراباً للانفتاح والفنّ.
سريعاً عيّن تركي شبانة وزيراً للإعلام. ولمن لا يعرف تركي شبانة، فهو عمل لسنوات مستشاراً للوليد بن طلال ومدير محطات "روتانا" التلفزيونية، كما كان أول من أنشأ محطة "روتانا سينما"، وأقام ما بين القاهرة وبيروت، مكتسباً خبرة في توجيه الإعلام بحسب ما يريده أصحاب النفوذ، وبالتالي كان تعيينه بتزكية من الوليد بن طلال، الذي أصبح مطيعاً لولي العهد محمد بن سلمان.
هكذا، عمد إلى تقديم شركة "روتانا" هدية لمستشار ولي العهد تُركي آل الشيخ، في سبيل المساعدة في خطة "الانفتاح" السعودي، مستعيناً بخبرة العاملين في "روتانا"، ومنهم على وجه التحديد سالم الهندي، الذي تحول إلى اليد اليمنى لآل الشيخ، متخذاً من قربه من الفنانين فرصةً لتجنيدهم لصالح المملكة، أو تحويلهم إلى أدوات بيد السلطة السعودية.
وفي ظلّ مقاطعة غربية لأبرز النجوم العالميين، الذين تركوا المملكة وحيدة، وفضوا عقودهم معها بعد الجريمة، عرفت هيئة الترفيه كيف تحكم الخناق على النجوم العرب. فأطلوا واحداً وراء الآخر، على مسارح المملكة، مذكرين بإنجازات ولي العهد: من أصالة إلى شيرين إلى تامر حسني وهبة طوجي... ترافق ذلك مع توقيع عقود فنية في مختلف الدول العربية إلى جانب بعض الجهات الغربية، التي عادت عن مقاطعتها بعد مرور أشهر على الجريمة.
قليلون هم الفنانون العرب الذين رفضوا العرض السعودي أو اختاروا المقاطعة. وبينما كانت التقارير الحقوقية عن تعذيب معتقلي الرأي جسديا وجنسياً ونفسياً تتوالى، كان صوت الموسيقى يعلو بدوره، والعروض المسرحية تتنقل بين مدينة وأخرى.
هل نجحت هيئة الترفيه بدورها؟ لعلها فعلت بشكل أو بآخر. لكن بعض الاستثناءات بقيت حاضرة هذا العام لتذكّرنا بأن إيقاع الموسيقى لا يغطي صوت الموت. فقبل أيام تشاجرت المغنية اللبنانية إليسا مع تركي آل الشيخ على موقع "تويتر". مشاجرة جاءت في سياق طويل من الصراعات بين إليسا وجهات سعودية. ورغم أن التقارير تشير إلى ضيق المغنية اللبنانية بالشروط الإنتاجية لـ"روتانا"، إلا أن أخباراً أخرى أشارت للمرة الأولى إلى أن السعوديين يعاقبون إليسا على موقفها من قضية خاشقجي. إذ أعادت خلال السنة الفائتة تغريد بعض المقالات التي تتهم السعودية بالجريمة. كما أنها وقفت على أحد مسارح دبي وخانها لسانها، بدلاً من أن توجه شكرها لمهندس الصوت، وهو من آل طاوقجي، قالت: "شكراً خاشقجي"؛ الأمر الذي فسره بعض السعوديين بأنه ليس زلة لسان، بل هو قول مدروس قامت به إليسا كإشارة إلى النظام السعودي والجريمة التي ذهب ضحيتها الصحافي جمال خاشقجي.