أغاني الكادحين

28 فبراير 2016
سيد درويش (يوتيوب)
+ الخط -
ليس شرطاً أن تكون فنّاناً كي تغني، أو مطرباً مُجيداً لتُسمع، فالغناء لدى الشعوب الشرقية كاد أن يكون طقساً يُمارسونه؛ لتيسير حياتهم البائسة وتليين قساوتها. وقد لاحظ المستشرق الإنجليزي، إدوارد لين، ميل المصريين الفطري إلى الموسيقى في تنسيق حركاتهم، والتخفيف من عبء أعمالهم المختلفة، وذلك بالأغاني والأناشيد. فالملاح يغني وهو يجدّف، والفلاح يغني وهو يرفع المياه، والحمال يغني وهو يحمل الأثقال، وكذلك النشار والحصّاد وكثير من العمال الآخرين.

بعض الحريصين على جمع التراث الغنائي الشعبي، استطاعوا جمع الكثير من تلك الأغاني. وعلى سبيل المثال، جمع الباحث، درويش الأسيوطي، كمّا من الأغاني التي كان يؤديها الفلاحون أثناء عزيق الأرض وحرثه، حيث يغني الفلاح الأجير، وهو يقوم بأعماله باستخدام الفأس، متحدثاً عن الشقاء في العمل، مقابل أجرة زهيدة لا تتجاوز نصف الريال: "يا سيدي جلال/ كايدني لوم العذّال. ما توطّي ظهرك يا خال. دي الكَرْوَة/ على نص ريال”.


الجميع يغني في جميع الأحوال، وربما يظهر من بينهم من هو حسن الصوت، مثلما اكتشفوا سيد درويش، فقرر زملاؤه أن يتركَ العمل اليدوي ويظل معهم؛ يغني لهم أثناء عملهم يسليهم بصوته ويسري عنهم. لم ينسَ درويش، حين فتحت له أبواب الفن، تلك الطبقات الكادحة من الشعب، فغنى لهم أغنية “الحلوة دي” المشهورة.

ويختلفُ هذا النوع من الغناء الذي يعبِّر عن شقاء الطبقات العاملة الكادحة، عن أغاني الأرستقراطييّن التي تتحدث من الخارج عن تلك الطبقات، فتعطي صورة غير صحيحة عن حياة الأشقياء. مثل أغنية "مَحلاها عيشة الفلاح/ متطمن قلبه مرتاح/ يتمرغ على أرض براح/ والخيمة الزرقا ساتراه”، التي لحنها عبد الوهاب، وغنتها أسمهان، ومن كلمات بيرم التونسي. بينما غنى الشيخ إمام أغنية “الفواعلية"، من كلمات ماجد يوسف. والفواعلية، هم أولئك العمال الذين تراهم جالسين على الأرصفة منذ الصباح الباكر في انتظار من يمرّ عليهم، ويكلفهم بأي عمل شاق يوفرون من خلاله لقمة عيش زهيدة، سواء أكان العمل في مجال البناء أو الهدم أو حمل الأمتعة وغيرها.

وكان بديع خيري، قد ألّف أغنيةً تعبّر عن حال السقائين، وهي مهنة كانت رائجة قبل خمسين عاماً، وكيف كان هؤلاء البسطاء يتحكّم فيهم الخواجات الذين سيطروا على مستودعات المياه، بامتياز من الحكومة، فيغنيها نجيب الريحاني (كشكش بيه) من ألحان سيد درويش: "يهون الله/ يعوض الله/ ع السقايين دول شقيانين. متعفرتين م الكوبانية. خواجاتها جونا/ حايطفشونا/ ليه بيرازونا/ دي صنعة أبونا”.

وتختلف هذه النوعية من الأغاني، عن تلك الأغاني التي خرجت من منطلق سياسي، لدعم العمل في المصانع والمشروعات التي أنشأتها الحكومة بعد ثورة يوليو 1952. مثل "محلاها الإيد الشغالة" لفايدة كامل، و"بدلتي الزرق" لعبد الحليم حافظ، و"مليون سلام" لعبد العزيز محمود وغيرها.

إقرأ أيضاً:شيوخ الغناء العربي... رواد النهضة الموسيقية
المساهمون