تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها في محاولة لإضاءة جوانب من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، 11 نيسان/ أبريل، ذكرى ميلاد شاعر العامية المصرية عبد الرحمن الأبنودي (1938 - 2015).
حين أتت والدته فاطنة قنديل آلام المخاض، غادرت مع زوجها محمود قرية نقادة التي كان يدرّس في مدرستها متوجّهين إلى أبنود إذ من العار أن تلد في بلدة غريبة، فاستقلّا المركب إلى الضفة الأخرى من النيل ومشيا مسافة طويلة وصولاً إلى محطّة القطار، وما إن وصلت إلى بيت أهلها قدمٌ داخله وأخرى خارجه، أبصر الشاعر المصري النور.
هكذا يروي عبد الرحمن الأبنودي (1938 -2015) الذي تحلّ اليوم السبت ذكرى ميلاده، تلك الحادثة في كتابه "أيامي الحلوة" الذي نشره على حلقات في ملحق "الأهرام" قبل أن يصدره في كتاب، ثم يُتبعه بجزأين آخرين لتكتمل الثلاثية قبل رحيله بسنتين، موضحاً في مقدّمته أنه مشاهد اقتطعها من حياته لتعطي صورة عنها، ولم يكن بصدد كتابة سيرة ذاتية "لا يحبّ صراحتها الفجّة ولا مواراتها الكاذبة".
ليست المرّة الأولى التي يختبر فيها صاحب "الأرض والعيال" لعبة السرد، فهو الذي جاب صعيد مصر خلال ثلاثين عاماً مع صديقه القوّال سيد الضوي، وجمعا السيرة الهلالية في خمسة أجزاء، كما كان أحد أبرز الحفّاظة الشعبيين الذين يروون الحكايات بجذورها المتعدّدة، فرعونية وقبطية وإسلامية، ويربطونها بمناسباتها الدينية والاجتماعية، ويحدّدون كيفية تواترها من جيل إلى آخر.
افتتح الأبنودي تلك الأيام، التي سنركز على الجزء الأول منها، بقصة أمّه التي أُجبرت على زواج ظالم قبل وصولها إلى سنّ البلوغ كما كان يحدث مع كثير من النساء في ريف مصر آنذاك، لتفرّ من بيت زوجها وتحظى بحماية والدها ثم تزوّجت معلّم اللغة العربية، وبذلك تشكّل تلك الواقعة بداية القصّ ومنتهاه، كما يشير إلى أنه طلب من والدته إعادة روايتها عشرات المرّات، وتظلّ المرأة العنصر الحاضر، عمّة وخالة وقريبة وجارة، في جميع حكاياته.
يخصّص الكتاب خمسة فصول متتالية منه بعنوان "المريض الفلكلوري"، في توثيق لمعتقدات الصعايدة وطرق علاجهم للأمراض المختلفة، وبالطبع ما يردّدونه من مأثورات أو أشعار خلال جلسات الاستشفاء، بأسلوب يمزج بين السخرية واستحضار المفارقات حول مقاومته للعلل ونجاته من وسائل علاجها التي تناقض العلم والمنطق.
يبرز الأبنودي في مذكّراته كراوٍ عليم يتقصّد أن يعرّف قارئه على نمط العيش في الصعيد، وتراتبيته الاجتماعية، وتركيبة العائلة فيها، متخذاً من المواضيع التي يتطرّق إليها ذريعة لكشف طبيعة الحياة من ورائها، مثلما يكتب حول الحسد، فيوضّح كيف أن الرجل الصعيدي يملك كلّ ما في بيته حتى زوجته، التي بدورها تتحكّم في الطيور التي تُربى في فناء منزلهم، ولذلك حكمة تتعلّق بقدرتها على التدبير، فهي التي تحدّد متى يأكل زوجها وأولادها الدجاج والحمام بحساب معلوم.
راعي الغنم هي المهنة الأولى للشاعر، والتي يتناولها في وصف دقيق وماتع حول المرعى؛ المكان الأهم والأثرى في طفولته، حيث تعلّم فيه العديد من الألعاب الشعبية التي لا يفوّت فرصة لعرض كيفية ممارستها، والأهمّ من ذلك تحمّل المسؤولية حيث عليه أن يرعى غنم أهله وأغنام جيرانه وأقربائه، واختبار الصبر وإدارة الوقت الذي يمرّ بطيئاً، مع إشارته إلى أن الرعاة إما هُواة كدأب جميع الصعايدة في صغرهم، أو محترفون يمتلكون خبرات ومهارات تؤهلهم لسوق قطيع ضخم من الخراف والماعز.
ينتقل الأبنودي في مذكراته إلى اصطياد الأسماك في النيل معدّداً أنواعها وذكرها في السيرة الهلالية حين يشبّه صوت الفتاة وتعابير وجهها بغمزة نوع من السمك، وصولاً إلى شوائها عبر تقليبها على الحطب، وتخزين المؤونة منها في جرار مخصّصة يوضع فيها الملح لتناولها بقية العام.
أما شهر رمضان، فيظلّ الموسم الأغنى لدى صاحب "الفصول" الذي دوّن كلّ ما يرتبط به من طقوس وحكايات وأمثال، وجميع الأحداث البارزة التي وقعت خلاله في أعوام مختلفة، لافتاً كيف كانت جدّته تتندّر من "عم الشيخ رفاعي"، مؤذن القرية، متهمة إياه أنه لم يتلُ آية واحدة طوال عمره، بسبب صوته الخفيض أثناء القراءة، وأنها تدفع له "خمسين قرشاً" ليقرأ عن روح شقيقه بلا طائل.
"يا رمان أحمر وجديد/ بكرة الوقفة وبعده العيد"، بهذه الكلمات يستذكر المظاهر الاحتفالية الغنائية في "الفطر"، والتي تسير فيها عربات الكارو أو الحناطير، وخلفها الأطفال الذين يكملون الأغنيات ويعيدونها سائرين من مبنى المديرية في القرية باتجاه مسجد سيدي عبد الرحيم الفنائي كأنهم فرقة موسيقية يرتدون ملابس العيد ويحصلون على هداياه.
تستحوذ طفولة الأبنودي على الجزء الأول من نصف الكتاب، متتبّعاً خيوط الذاكرة التي تقوده إلى الكلاب، تلك الكائنات التي لازمته في ذلك العمر، أو شجر الرمّان وثماره التي حملت رمزية خاصة تسرّبت إلى الأشعار والأمثال، أو المتسوّلين الغجر الذين يأتون القرية في مواسم الحصاد مردّدين الأناشيد وهم يعزفون على الربابة لاستدرار العاطفة تجاههم، أو رجالات قريته أبنود مستفيضاً في تناول شخصياتهم ومهن بعضهم والألقاب التي تغلب على أسمائهم لارتباطها بحوادث لا يمكن أن ينساها الصعايدة.
"أغاني النساء" عنوان أحد عشر فصلاً وثّق خلالها صاحب "أنا والناس" ما تغنّيه المرأة الصعيدية منذ ولادتها فرحِة بقدوم الصبي وحزينة بمجيء الصبية، فتقول: "لما قالولي بنيّة/ الحيطان مالت عليا/ وكلوني البيض بقشره/ وبدال السَّمن.. مَيّة"، ثم يمرّ على أغانيهن استبشاراً بموسم القمح، والعريس القريب والعريس البعيد، وليلة الحنّة، وأسرار الزواج، والحمل والولادة، ورحلة الحج.
"ولأني خرجت من القرية وكأني عصارتها، فقد حملت تاريخها وباطنها ووجهها في الضمير – دون قصد – وسرت في الحياة"، بهذه المقولة يصف الأبنودي مصادره الأولى التي كوّنت شخصيته وقصيدته، وظلّ يرجع إليها على الدوام، في شبابه بمدينة قنا ثم انتقاله إلى القاهرة، وهما المكانان اللذان يروي حكايتهما في الجزأين الثاني والثالث من مذكراته، والتي يصبح حينها أصدقاؤه والمقرّبون منه وشخصيات أخرى عاصرها في مراحل مختلفة من حياته، مركز السرد وبؤرته، بارعاً في رسم بورتريهات بالشعر والنثر.