لكل مهتمّ بـ التاريخ، فإن سلسلة "قصة الحضارة" التي كتبها الباحث الأميركي ويليام (ويل) جيمس ديورانت (1885-1981)- الذي تحلّ ذكرى ميلاده اليوم وشاركته زوجته الباحثة الروسية آرييل ديورانت في تأليفها- تعدّ جزءاً أساسياً من أرفف المكتبة.
كان الكتاب أول صدوره مفاجأة للأوساط الثقافية، فديورانت لم يكن مؤرخاً وربما لهذا يستمر المؤرخون اليوم في تجاهله في دراساتهم، لكنه كان أستاذاً للفلسفة. رغم ذلك وربما بسبب ذلك فإنه يقتبس ويشير في كتابه إلى مراجع من النادر أن تراها في أي كتاب آخر لمؤرخ متخصّص.
يميز عمل ديورانت أيضاً أنه، بخلاف المؤرخين، لم يكن متخصّصاً في حقبة بعينها أو موضوع بحد ذاته أو جزئية من هذا التاريخ أو ذلك، بل كان يحاول وضع تسلسل شمولي الطابع لقصة تاريخ العالم وتكوّن حضاراته المختلفة.
بدأ ديورانت فكرته من كتابه الأول "قصة الفلسفة"، وفيه أيضاً يحاول وضع التاريخ الكامل للفلسفة منذ العصور القديمة وصولاً إلى نيتشه. يميّز هذا الكتاب أن المؤلف كان يضع الفلسفات المختلفة في سياقاتها التاريخية، ولا يكتفي بالحديث عن الفلسفة بحد ذاتها كأفكار ومفاهيم معزولة عن التاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي المحيط بها، بل إنه يتناول أيضاً أثر فلسفات معينة في العالم غير الفلسفي.
من المدهش في كتاب ديورانت، قدرته على وضع كمية كبيرة من المعلومات والأفكار بطريقة سلسلة بعيدة عن التعقيد وفي كتب ليست ضخمة الحجم، الأمر الذي يتطلّب أستاذية كبيرة في فن التأليف والتحرير والحذف دون إغفال التفاصيل الممتعة إلى جانب المهمة، وبلغة أنيقة لا تخلو من الحس الأدبي.
لا شك أن ديورانت تغاضى أيضاً عن ذكر الكثير، رغم ذلك لا يمكن وصف هذا الكتاب إلا بأنه تضمّن عن تاريخ الفلسفة أكثر مما ضمّ أي كتاب آخر. وعلى خطى هذا الكتاب المؤثر، بدأ مفكرون آخرون يتبعون ديورانت ومن بينهم برتراند راسل الذي وضع كتاباً اتبع فيه نهج ديورانت وهو "تاريخ الفلسفة الغربية"، وليس من المبالغة القول بأن راسل استنسخ تجربة ديورانت، غير أنه توسع فيها أكثر.
لم يبدو "تاريخ الفلسفة" كافياً بالنسبة إلى ديورانت، كان هناك تصوّر في رأسه أن هناك ضرورة لرسم صورة كبيرة لتاريخ العالم، فانطلق يكتب تاريخاً لمختلف العلوم والحضارات، وكأنه يرسم خريطة لماضي العالم الثقافي والفكري، وقد فعل ذلك على نحو لم يسبقه أحد إليه ولم يكرّره أحد بعده إلى اليوم.
ولإنجاز هذه المهمة التي بدت مستحيلة في بدايتها، استقال ديورانت من عمله كأستاذ للفلسفة، وتزوّج من أرييل في السنة نفسها عام 1930، وطلب منها مساعدته في تأليف الكتاب، وبالفعل تفرّغ الاثنان للبحث وجمع المادة العلمية والتاريخية والوثائقية، على نفقتهما الخاصة.
وضع الاثنان سلسلة من الكتب وصلت إلى 11 كتاباً هي "قصة الحضارة"، الأول ظهر عام 1935 وكان بعنوان "إرثنا الشرقي"، والآخير عام 1975 كان بعنوان "عصر نابليون"، وتظهر يومياتهما ووثائقهما أنه كان في نيتهما إصدار المزيد لكن رحيل إرييل في تشرين الأول/ أكتوبر 1981، تركت ويليام محطّماً تماماً فلم يعش بعدها إلا أسبوعين، ورحل في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام نفسه.
تضمّنت السلسلة كتاباً واحداً عن الشرق من شمال أفريقياً وصولاً إلى اليابان، وهو مفصّل وشامل تقريباً، مثل كتاب "قصة الحضارة" مكثف ومحدد ودقيق، ومن مميزاته وجود كلّ هذه الحضارات وتاريخها في سلسلة واحدة مكتوبة بشكل شيق بعيد عن التعقيد الأكاديمي وجموده، ما يجعلها مجموعة مرجعية بحق.
صحيح أن شعبية "ٌقصة الحضارة" تراجعت، لكن ولغاية اليوم لم تأت سلسلة أخرى لتحلّ محلها، وإن كان المؤلفان قد انتهيا عند عصر نابليون، فلنتخيّل لو أنهما عاشا لفترة أطول إلى أي حد كان سيكون "قصة الحضارة" عملاً موسوعياً يصل إلى منتصف القرن العشرين على الأقل.
كتب ديورانت قبل أن يبدأ في هذه السلسلة، كتاب "حالة الهند" (1930) و"مأساة روسيا" (1933)، وكأن أول كتبه "الفلسفة والمشكلة الاجتماعية" (1917)، وبعد رحيله عُثر على الكثير من الكتب التي لم تنشر، وظلّت تظهر كتابات وتصدر في كتب حتى بعد رحيله، آخرها بعنوان "الأوراق المتساقطة" (2014)، ويبلغ مجموع الكتب التي ألفها خلاف "قصة الحضارة"، تسعة عشر كتاباً كلها في التاريخ والفلسفة.