ممّا رواه إدوار الخرّاط عن زمنه

04 ديسمبر 2015
+ الخط -
ـ "قال لنفسه: نحن المُمتهَنين في عقر دارنا، المحبوسين عن أن نرفع حتى صوتنا، المطرودين نبيع أنفسنا بالرُّخص، وبكبرياء، في شوارع الصحراوات، ومدنها المجلوبة القاسية، في الميادين الخلفية والمطابخ الخلفية لعواصم العالم كله، بحثاً عن الترانزستور والفيديو والفول أتوماتيك، نستهلكها وتستهلكنا في الشقق الجديدة المستحيلة، أو على شط الترعة التي ما تزال تغص بالبلهارسيا، نحن الذين ما زلنا نأكل المش بالدود وأعواد الجعضيض، بالرغيف الجاهز المدعوم، في أوانٍ بلاستيكية جديدة، ما زلنا بقطعة لحم عزيزة، نأخذها من الحكومة بالعظم والشّغَت، ونفُكّ الخط بصعوبة، ونطلب من الغرباء أن يملأوا لنا استمارات السفر في مطارات مالطة وطرابلس وجدة وبغداد، نحن هنا أيضا، لا يمكن إلا أن نكون هنا، نحن المضروبين، من أنا بينهم؟ نحن الغارقين في القهر المتزيّن بأطمار خَلِقَة، نحن الذين ـ برغمنا أو طوعاً وقراراً منا في دخيلتنا، ننشُقُ دخان جبل القمامة المحترق المتصاعد من صناديق الشوارع وصناديق التاريخ، يلوّث بيوتنا وقلوبنا، نحن الذين يرقبوننا ويسرقوننا ويكذبون علينا ويخوّفوننا، ويجعلون نفوسنا وساحاتنا وحاراتنا قفراً وخراباً، نحن المحاصَرين الصامتين الذين نجري ونقف في الزحمة صفوفاً بذيئة، وراء اللقمة واللحمة، نضرب بأيدينا المتقبّضة في الظلام، ثم نترك أيدينا تسقط، نحن الذين تنقضّ فوق رؤوسنا الأنقاض، وتحترق بنا القطارات وتنقصف السيارات، وتنقلب المراكب في مياه النيل اللامبالي العميق. سوف تقول له: البلد راحت تحت أقدام الكلاب. وسوف يحس الغضب والإهانة، له وعلى الأكثر لها، هي، ولن يعرف أبدا إن كان في الغضب شُبهة إنقاذ أو شُبهة يأس".

من رواية (الزمن الآخر) صدرت عام 1985

ـ "لم يقل لها أبداً: ألا تُحسّين وطء قضبان السجن تضغط على اللحم العاري المكشوف؟ ألا تُحسّين القهر يقبض على ناصية القلب؟ يقبض على ناصية السماء؟ والصرخة المكتومة؟ ولن يقول لها، فقد كان يظن أن في طبعه شيئاً من الكبرياء، وكان يظن أن الأشياء المهمة حقا لا تُقال، ولا يمكن أن تُقال.

هل هناك أشياء مهمة، حقا؟ في حديثه لنفسه معها، قال لها: ماذا يمكن للواحد أن يقول عن شيء كالموت، أو عن الصدق؟ أو عن الحب؟ كل شيء قيل. وكان يظن أن الكلام ـ مجرد الكلام ـ مهما كان حاراً أو نابعا من أصل الحياة نفسها، خيانة. وكان يقول لنفسه إنه مخطئ في هذا كله، وإن البلاء ليس في مراهقة الحس والقلب وحدها. وإن النضوج معناه التصالح مع نصف الحل، وقبول نصف التسوية، والتسليم بما لك وما عليك، والرضا بما تستطيع، وما يستطيع لك العالم. النضوج معناه، كما يقال، الاحتفاظ بغضاضة الأمل الناعمة، مرويّة بالماء، ولو كان ماءً مَلِحاً، في قلب صخرة اليأس اليابسة".

من رواية (رامة والتنين) صدرت عام 1979

ـ "في تلك الأيام ـ أين ذهبت تلك الأيام؟ ـ كان الشعب عفيّاً قوي العود غير مخصيّ بعد، كان يعرف ـ من علّمه؟ ـ معنى الحرية، وعلى استعداد لبذل الحياة نفسها في سبيل الحرية. كان عصيّا على الانصياع لكل سلطات القمع العتيد، أو سلطات النص العتيق، قلت: لم تكن تضلّله ـ كثيراً ـ غوايات تغييب الوعي من خلال أجهزة الإعلام كاسحة الانتشار، ولم تكن تُظلّله وصاية أبوية ديكتاتورية، فرضت عليه تحقيق مطالبه هو نفسه، فرضاً من غير أن يسهم في الحصول عليها، ومن ثم سرعان ما انهارت، وجرفتها موجات الخصخصة العارمة وفُحش العولمة والتبعية للرأسمالية المتوحشة. أما يكفي هذا تفجّعا، أو توجّعاً؟".

من رواية (طريق النسر) الصادرة عام 2002 

ـ "ورأيت صفّاً من العساكر بخوذاتهم وأقنعتهم الزجاجية التي لا ينفد منها الرصاص، مدجّجين، يسدّون الشوارع الضيقة التي ذرعها الأنبياء والشعراء والحالمون، في القدس ورام الله والناصرة وبيت لحم والخليل، يقذفون الأطفال بالرشاشات السريعة الطلقات والقنابل المسيلة للدموع، يحيطون بالنصب الدائري الجرانيتي الذي يلمع بالليل في قلب ميدان التحرير، ويضربون الأولاد والبنات بالهراوات، ويسوقون الأسرى إلى عربات السكك الحديدية المغلقة الخانقة، وإلى الخنادق الموحلة المثلجة في وارسو وسيبيريا وغرف الغاز في داخاو، ويجرّون وراء عمال الغزل والنسيج في المحلة وكفر الدوار وكرموز وطلبة الحقوق والطب وسائر العلوم على ربوة العباسية في محرم بك، دباباتهم الصفراء الصغيرة عارفة بنواياها، ويضربون بالرصاص من البنادق الطويلة القديمة الطراز فيسقط المئات في الساحة الفسيحة أمام قصر الشتاء، وتصفر سياراتهم السوداء المسدودة أمام السوربون، ويَجرّون بمقاودهم الجلدية الكلاب المدربة الشرسة فتنهش سيقان السود في جوهانسبرج أو المسيسيبي على السواء".

من رواية (يا بنات إسكندرية) صدرت عام 1990  

ـ "قال: لمَ نَحتمِ بحبّنا وحده من عصفِ هذا الجنون، من رعب إمكانات مستقبل مظلم، بل كان الحمى والملاذ حقا هو إيمان قائم راسخ، ربما غير مبرر عقليا، بأن الوطن سيظل أبدا جسدا نقيا، مهما كان ملتبس التكوينات".

من رواية (يقين العطش) صدرت عام 1997

ـ "بي رغبة أليمة في البكاء يا صديقي، لكن هذه الرغبة ذاتها تبعث فيّ شعورا عميقاً بكراهيةٍ لا حدود لها، وحقد عميق مخيف، والمُصاب، أنني لا أعرف إلى أين تتجه هذه الكراهية أو إلى أين يندفع هذا الحقد الأسود المجنون، لا جهة معينة، ولا مصدر معروف، إنها شبه شيء مخيف ثائر مهول، يندفع في كل اتجاه وكل مكان يا صديقي، من دون أن يذهب إلى أي اتجاه أو أي مكان، دون أن يتوقف لحظة أو يستقر ثانية، وهو في أثناء هذا كله، لا يني عن نزيف ممتد وزئير مخيف، محطّما، مدمرا، متّقدا".

من (اسكندريّتي) صدرت سنة 1994

ـ "وسألني وفيق عن الحال في مصر، ومن غير أن ينتظر إجابة انطلق يُعدِّد سيئات مصر وسوءات الحياة فيها، ولم يكن قد وضع قدمه على أرضها، منذ أن غادرها قبل خمسة عشر عاما أو نحوها، وتكلم عن القمامة والإهمال والذباب والرشوة، لم يذكر حُمّى القتل، والقتل المضاد، إذ لم تكن موجة العنف والتعصب الأعمى والظلامية، والسعي اعتسافا إلى الاستئثار بالسلطة، تحت زي الدين وتسترا بقناعه، قد اندلعت بعد على أرض الوطن بكل شراستها ووحشيتها، وإن كانت قد تطايرت لها شرارات، هنا أو هناك، لكنه تحدث عن الرثاثة والديكتاتورية والفساد وتكميم الأفواه وقمع الحريات وخبث الناس إلى آخره، ورددت عليه وأنا أحاول التحكّم في نبرة صوتي، وفي منطقي، بما معناه أن الناس في مصر أكرم وأكثر أصالة ودفئا منهم في أي مكان آخر، أو على الأقل في أوروبا، وأنهم في البيئة المناسبة يبدعون، ويلتزمون، ويتفوقون، وأن الوطن أكبر وأبقى من أي نظام للحكم".

من رواية (حريق الأخيلة) صدرت سنة 1994

ـ "أحسّ بالثقل القديم العنيد يرزح في نفسي، ثقل في كل شيء لا يدع شيئاً إلا ركوداً ساقطاً على قلبي، وهم يضحكون ضحكاتهم المقلوبة تلك، شهقات الشقاء الذي يريد أن يفرّ من ذاته، زفرات تأكيد الذات تلتقط هواء حياتها من قلب زحمة الحياة، تشهق وتضحك، لأنها تجد حولها تلك العلاقات المقلوبة بين الناس والأشياء، كل المساخر الصغيرة والكبيرة تُخرج لسانها في وجه المرء، وتُدحرج حملاقي عيونها أمامه. نحن في ذلك نشقّ الطريق القديم نفسه، الذي اختططناه لأنفسنا بين ركام بقايا أفكار فجّة وعلاقات شوهاء وصور ماحلة، لا أحد يهتم، ولن يهتم أحد، بما يحدث أو سيحدث، بما حدث أو لم يحدث. كلٌّ منا سيشق سِكّته المرتجلة ـ مهما زعم لنفسه ـ كلٌّ منا وحيد في ذاته، له أحلامه وضحكاته وشهقاته وحيداً إلى الأبد، وحيداً كالمقضيّ عليه، وحيداً لا يهتم بأحد في النهاية، ولا يُعنى بأحد. أحقّا؟ ألم يكن مفروضاً أن الصحبة والرفقة ـ والحب؟ ـ تقضي على هذه الوحشة، لماذا هذه العلاقات إذن تزيد عبء الوحشة؟".

من رواية (حجارة بوبيللو) صدرت عام 1993

ـ "قال: وحشُ الألم قائم. قال: ومع ذلك، فإن مجرد الوجود والحياة حتى بإزاء الوحش، حتى لو لم ينكُص الوحش ولم يسقط، مجرد الوجود إنما هو دحضٌ نهائي له، مجرد الوجود عملٌ خُلقي في المقام الأول، إدانةٌ للوحش. مُجرّد شرب كوب شاي في البلكونة المطلة على شارع ابن زهر، وسماع لغط الجيران في الشبابيك مع هديل الحمام في خُنٍّ قريبٍ هديلاً منتظما متصلاً، مجرد أن أشم رائحة بخور وعطارة مع دقّات الزار في بيت أم فكري، وأن أسمع صلصلة الترام في شارع راغب، ونداءات باعة المانجة.. روبابيكيا.. حَمَار وحلاوة، والانغمار في وجود الناس المصممين ـ دون وعي ربما ودون فلسفة ـ على البقاء على الحياة، وعلى المتعة بها رغم كل شيء، هو إنكار للوحش.

قال: ما معنى هذه الحياة؟ قال: الحياة نفسها، مجرد الحياة، أوجاعها وبهجاتها ونشواتها وعذاباتها. قال: إننا دُعينا للحرية. حيث روح الحياة هناك الحرية، وفي ظل هذه الروح نحيا، نختبئ حيناً ونظهر للملأ، عراة ومقدّسين، حيناً آخر، لأن روح الحب لا تكف عن الفيضان، حتى لو كان السجن يحاصرنا، والأصفاد تكبّلنا، ومن حولنا العسكر، ننام ونقوم في وجه الموت، وبذلك نحيا، بالحب نحيا، وبالحرية".

من رواية (صخور السماء) صدرت عام 2001

ألف رحمة ونور على الكاتب المصري الكبير إدوار الخراط، لا تحرموا أنفسكم من قراءة كتابته الجميلة.  

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.