ثقافة الطعام بين المعنى واللغة

15 مارس 2016
(الدار البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة، 2014)
+ الخط -
قد يُعرّف الإنسان للتمييز عن الحيوان بالكائن الاجتماعي، أو الحيوان الناطق والعاقل، ولكنه ثقافياً، هو ذلك الكائن الذي يطبخ طعامه، فالانتقال من حالة الطبيعة لحالة الثقافة استدعت وجود الطبخ كهويّة خصوصية للإنسان. ومن هنا يكمن الاهتمام السوسيولوجي والانثروبولوجي بالطبخ وتاريخه في المجتمعات القديمة والحديثة، بل ذهب بعضهم مثل جورج سيمل إلى ضرورة تأسيس "علم اجتماع المائدة"، فالاهتمام بهذه الثقافة لا يتجزأ من الاهتمام العام بالتفاصيل اليومية للشعوب التي تهم الدراسات الاجتماعية والاثنوغرافية خصوصاً.

وكتاب ابراهيم الحَيْسن "الأطعمة والأشربة في الصحراء: أنثروبولوجيا الطبيخ وآداب المائدة عند البيضان" من الكتب القليلة التي تصدّت لهذا الموضوع عند المجتمعات البيضانية، تكمن أهميّة الموضوع لاختلاف ثقافة الأكل والطعام عند البيضان والمجتمعات البدوية عموماً عن بقية الثقافات الانسانية، يقول ابن خلدون: "وأما أهل البادية فمأكولهم قليل في الغالب، والجوع عليهم أغلب لقلة الحبوب، حتى صار لهم ذلك عادة، وربما يظن أنه جِبِلّة لاستمرارها (...) وعلاج الطبخ بالتوابل والفواكه إنما يدعو إليه ترفُ الحضارة الذين هم بمعزل عنه..." رغم ذلك فهناك ثقافات متعددة داخل هذه الصحراء فلا يمكن أن نقول مثلاً أن ثقافة الأكل عند البيضان الذين يفضّلون الأكل بأياديهم هيّ نفسها عند جيرانهم الطوارق الذين لا يأكلون إلا بالملاعق.

تبرز إذن سمات مميزة لهذه الثقافة عند البيضاني فالطعام عنده مفعمٌ برسائل اجتماعية ومعنوية ورمزيته تشير إلى كونه وسيلة للتعبير عن مدى الكرم الذي يجب أن يُقابل به الضيف ونوع المعاملة الحسنة التي تتوجب نحوه، فهو في الأساس موجّه للآخر لا للذات، ففي زمن الندرة وعصر الجفاف والتقشف الذي تتميز به المنطقة يبقى للطعام رمز فقط أثناء حضور الآخر، أما في غيابه فقد يتحول طلبه إلى نوع من الحيوانية رغم كونه حاجة إنسانية لا يمكن الاستغناء عنها، فالبيضان "مثل الأثينيين يعدّون من يأكل بمفرده جلفاً غير مهذّب". وتقاليد الغذاء عند البيضان لا ترتبط إلا بهاجس الخوف والرهبة من الجدب والرجوع إلى عصور الأوبئة الناتجة عن نقصان نقاط المياه وضعف التغذية، وكل ذلك جعل من تسجيل تاريخ للطعام عند البيضان نوعاً من الترف وبالتالي ظلت الدراسات حول الموضوع نادرة.

هذه الندرة ولّدت ردة فعل تشبه التقديس للغذاء فقد أصبحت رمزيته مرتبطة بالمقدّس الديني وذلك باعتباره نعمة من الله، لا يجوز التفريط فيها ولا الاستهانة بها والعبث بها، والاستشهاد بأحاديث الرسول (ص) كثيرة في هذا الموضع، ورغم ذلك يبقى للطّعام رمزية التشارك فالضيف هو سبب وجود الموائد، وهو من تقدّم له الأطباق حتى ولو باتت الأسرة على الطوى، فتعزيز الروابط الاجتماعية من خلال الطعام أهم من كون الطّعام نفسه غذاءً، لهذا فالمقابل الحساني للضيّافة هو كلمة "العار"، وتطلق على الضيافة وعلى الضيف، فإكرامهم مرتبط بذهاب العار وإهمالهم يجلب العار للأسرة وللقبيلة، وهنا تتأكدّ مقولات كلود لفي شتراوس بارتباط ثقافي بين الطّعام والمعنى واللغة، فالمطبخ يمكن اعتباره نسقاً كأي نسق آخر لغوي يستطيع المجتمع أن يعبّر من خلاله عن قواعده وبنيته التي تحكمه.

يستغرق الكاتب في سرد بعض المواضع البالغة الأهمية التي ترتبط بالغذاء وبالطبخ خاصة في المجتمع البيضاني ومن المواضيع التي تناولها الكتاب محاولة ربط الطعام بمواضيع أخرى لعل أهمّها الجنس، والظاهرة المعروفة في المجتمع البيضاني هي ظاهرة "البلوح"، أي تجهيز المرأة لتوافق المتطلبات الجنسيّة للرّجل من خلال تسمينها منذ الصغر، فكلما زاد حجمها زادت أهميّتها، ولكن التسمين كذلك مرتبط بالرفاه وبالحالة الاجتماعية والاقتصادية للأسرة التي تُرغم بناتها على السمنة منذ الطفولة.

(كاتب موريتاني)
المساهمون