وتركزت جملة من ردود الفعل الأولية المتعلقة بالمسودة، على مضمون المادة 16 من المسودة، التي نصّت على أنه "يمكن للقانون أن يخص بعض البلديات بقانونٍ خاص"، فيما نصّت المادة 17 على أن "تقوم العلاقات بين الدولة والجماعات الإقليمية على مبادئ اللامركزية وعدم التركيز". وتعاملت بعض الأطراف السياسية مع الخطوة بحذر، على خلفية مخاوف سياسية بشأن إمكانية أن تفتح هذه المواد الدستورية الباب تدريجياً أمام مطالبات لاحقة بـ"نظام فيدرالي" وإعطاء مناطق معينة وضعاً خاصاً يختلف عن باقي مناطق الوطن، استجابةً لضغوط ومطالبات سياسية ومناطقية، وتعني بها تحديداً منطقة القبائل، ذات الأغلبية من السكان الأمازيغ.
ضمن هذه المخاوف، أعلن رئيس حركة "البناء الوطني" (إخوان الجزائر) عبد القادر بن قرينة بشكلٍ واضح تحفظه على هذا الطرح، تخوفاً من أن يكون المقترح استجابة لضغوط مجموعات سياسية محلية أو دولية. وذكر بن قرينة، في تصريحٍ مكتوب نشره تعليقاً على مسودة التعديلات الدستورية، أن "الوثيقة أعطت قوانين خاصة لبعض البلديات، وهذا يحتاج إلى توضيح، فلعله يفتح الباب أمام الفيدرالية، أو لإعطاء خصوصياتٍ معينة تكون بمثابة باب جهنم الذي سوف يفتح على وحدة أرضنا وشعبنا وديننا ولغتنا"، خصوصاً أن هذا المطلب رُفع من قبل مجموعات سياسية خلال تظاهرات الحراك الشعبي العام الماضي.
وترتبط مخاوف بن قرينة، كما مخاوف أطرافٍ أخرى، بخلفيات سياسية نتجت عن مبادرات ومطالبات سابقة، تدعو إلى تبني نظام الأقاليم بما يتيح وضع نظامٍ خاص لمنطقة القبائل وسط البلاد (ذات الأغلبية الأمازيغية)، أو مقاطعات ذات الغالبية من الأمازيغ أتباع المذهب الإباضي في منطقة غرداية جنوبي الجزائر، بسبب خصوصياتها المحلية والثقافية. ففي الخامس من سبتمبر/أيلول الماضي، طرحت مجموعة من الشخصيات السياسية والنشطاء، بينهم مؤسس حزب "التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية" سعيد سعدي، والناشط السياسي والحقوقي البارز مقران آيت العربي، والمخرج بشير درايس، والكاتب بوعلام صنصال، ما أسموه "ميثاقاً سياسياً" يدعو بشكل صريح إلى مراجعة نظام الحكم المركزي وتبني نظام الأقاليم. واعتبر الميثاق أن "اختيار نمط نظام الجهونة (أو النظام الإقليمي) الموحد، سيساعد الجزائر على اللحاق بصف البلدان العصرية"، متهماً السلطة بتخويف الجزائريين "لعقود طويلة من مخاطر نظام النواحي". وكان حزب "التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية"، المتمركز بشكل خاص في منطقة الأمازيغ، قد طرح في العام 2002، فكرة نظام "الجهوية المعدلة"، والذي يعني منح إدارة ذاتية وسلطة للمجالس المنتخبة في المناطق ذات الخصوصية المتجانسة. وفي يناير/كانون الثاني 2012، اقترحت كتلة من نواب البرلمان التابعين للحزب نفسه، تعديلات بمناسبة مناقشة قانون البلدية والولاية، تضمنت إنشاء مقاطعات جهوية تضم مجموعة من الولايات تتميز كل مقاطعة بخطط تنمية محلية، لكن البرلمان عارض المقترح بدعوى تعارضه مع الدستور.
من جهتها، قلّلت قراءات سياسية أخرى من هذه المخاوف، مستبعدة أن يكون مقترح "نظام خاص لبعض البلديات" بوابة لأي شكل من أشكال الفيدرالية، خصوصاً أن الدستور يتحدث عن "بلديات بوضعٍ خاص"، وليس عن ولايات. وفي السياق، لفت القيادي في حزب "العمال الاشتراكي" سمير لعرابي، إلى أن الجزائر شهدت في وقت سابق تجربة من هذا القبيل "عندما أُعلنت العاصمة الجزائرية، كمحافظة كبرى ذات نظام خاص، بعدما تمّ اقتطاع بلديات عدة كانت تتبع الولايات المجاورة لضمّها إلى محافظة الجزائر الكبرى، من دون أن يطرح الأمر حينها أي إشكال أو حديث عن صيغة الفيدرالية". وأضاف لعرابي أنه "حتى الآن، ليس واضحاً ما المغزى من هذا المقترح الدستوري، ومن هي البلديات المعنية بالنظام الخاص، فالمشكلة المركزية التي تعيق الحكم المحلي تكمن في عدم إعطاء المجالس البلدية والولائية المنتخبة صلاحيات كبيرة وحقيقية، إذ لا تتمتع البلديات بسلطات كبيرة مقارنة مع سلطات الإدارة المتسلطة".
ثمّة تفسيرات تصف المخاوف المعلنة من "الفيدرالية"، بأنها مجرد مناورة سياسية لا تستند إلى واقع عملي، وتميل في مقابل ذلك إلى مبررات اقتصادية بحتة في تفسير المقترح الدستوري، على اعتبار وجود فوارق كبيرة وخصوصيات اقتصادية لبعض المقاطعات في البلاد، والتي لا يمكن أن تتطلب إدارة شؤونها المحلية وضعاً وصلاحيات أوسع لمؤسسة الحكم المحلي التي تديرها.
ورأى الباحث الأكاديمي عمار صيغة، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "التوجه الاقتصادي المستقبلي للدولة نحو دفع البلديات ومؤسسات الحكم المحلي للبحث عن التمويل الذاتي، "قد يجعلنا حتماً أمام تحرير أكبر لبعض البلديات، وإعطائها وضعاً خاصاً، لا سيما البلديات التي تحتضن قواعد نفط وغاز ومناجم على وجه الخصوص، وإفادتها بقوانين خاصة واستثنائية"، على غرار مقاطعة حاسي مسعود جنوبي الجزائر، أو منطقة حوض الغاز مقاطعة حاسي الرمل، وسط البلاد.
وإذا كان المقترح الدستوري "للنظام الخاص ببعض البلديات" قد أسند وضع محددات وضوابط هذا النظام إلى الحكومة والبرلمان لاقتراح نصٍّ خاص، وتعديل قانون البلدية، فإن الأمر قد ينسحب أيضاً على بعض البلديات الحدودية ذات الطبيعة الجغرافية الخاصة، والتي تحتاج إلى نظام إدارة خاص يأخذ بعين الاعتبار ظروفها وطبيعتها وموقعها وحساسيتها كمنطقة حدودية، تتداخل فيها الصلاحيات بين ثلاثة أطراف، المجالس المنتخبة والسلطة الإدارية والسلطة العسكرية والأمنية.