عام ونصف العام تقريباً هي الفترة التي فصلت بين المرة الأولى التي تحدث فيها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي عن "صفقة القرن" حول القضية الفلسطينية، خلال زيارته للرئيس الأميركي دونالد ترامب في إبريل/نيسان 2017، معلناً تأييده المطلق لها، وبين حديث السيسي أمس الأول الأحد خلال المؤتمر السادس للشباب في جامعة القاهرة واصفاً الصفقة بأنها "تعبير إعلامي أكثر من كونها اتفاقاً سياسياً"، مشيراً بعبارات كانت أقرب للتنصل من الصفقة أو إبعاد نفسه عنها، إلى أن مصر "تمارس بهدوء دوراً تحاول أن يكون إيجابياً لإيجاد مخرج مقنع لحل القضية الفلسطينية". كما كرر تأكيده أن الثوابت المصرية في هذه القضية تتمثل في الالتزام بحدود 4 يونيو/حزيران 1967 وأن تكون القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين.
السيسي الذي قال الأحد إن "صفقة القرن" هي تعبير إعلامي، كان هو في الحقيقة أول شخصية سياسية عربية تحدثت عنها بهذا الوصف (صفقة القرن) في حضور ترامب، الذي رحب آنذاك بدعم السيسي للصفقة، وكانت القاهرة طوال الشهور السبعة الماضية محطة رئيسية في جولات المبعوثين الأميركيين إلى المنطقة، جاريد كوشنر وجيسون غرينبلات، بل ولاعباً رئيسياً لإقناع الفرقاء الفلسطينيين بقبول بنود الصفقة. وقبلها قدّم السيسي نفسه كممهد أساسي للصفقة من باب بذل جهود لتحقيق المصالحة الفلسطينية وتقليم أظافر حركة "حماس".
المعلومات التي كشفتها "رويترز" أكدها لصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية أمس الإثنين مصدران دبلوماسيان ضالعان في "مباحثات خطة السلام الأميركية"، بحسب توصيف الصحيفة، التي قالت في تقرير لها إن المصدرين أكدا أن السعودية ودولاً عربية أخرى أوضحت لإدارة ترامب أخيراً أنه لا يمكنها أن تدعم خطته ما لم تتضمن عاصمة فلسطينية في القدس الشرقية. ونقلت الصحيفة عن مصدر دبلوماسي مطلع على "صفقة القرن" أن السعوديين قالوا لإدارة ترامب: "ما كان بمقدورنا أن نفعله من أجلكم قبل القدس، لا نستطيع أن نفعله الآن"، في إشارة إلى نقل السفارة الأميركية إلى القدس والاعتراف بالمدينة عاصمة لإسرائيل.
في السياق نفسه، كشفت مصادر دبلوماسية مصرية قريبة من دوائر صناعة القرار تحدثت لـ"العربي الجديد"، أن السبب الرئيسي في تدخُّل الملك سلمان، ودخول السيسي معه على الخط في التعبير عن تراجع ضمني بشأن المقترحات المطروحة من الإدارة الأميركية، وتحديداً كوشنر، هو فشل الضغوط التي فُرضت على السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس، والعاهل الأردني عبدالله الثاني، لإقناعهما بقبول التصورات الأولية التي طرحها كوشنر بشأن الصفقة، وتمسك الزعيمين بموقفهما.
وقالت المصادر إن عباس بعث برسائل عدة للملك سلمان عبر وسطاء، أعلن فيها بشكل واضح التململ من الضغط الذي يمارسه عليه ولي العهد محمد بن سلمان للقبول بأمور من الصعب على أي فلسطيني الاستجابة لها، مؤكداً أنه "على مشارف ختام حياته ولن يقبل تنازلاً عن الثوابت المتعارف عليها عربياً في ما يخص القضية الفلسطينية".
وأوضحت المصادر أن العاهل الأردني كان موقفه أيضاً صلباً في هذه الجزئية، ولكن رفضه للخطة الأميركية جاء لتخوّفه من أن تحمل انتقاصاً من سيادة بلاده عبر انتزاع مجموعة الصلاحيات المنصوص عليها أممياً، وكذلك استقطاع أراضٍ أردنية ضمن الخطة، إضافة إلى تحميل بلاده أعباء متعلقة باللاجئين الفلسطينيين في الأردن. ولفتت المصادر إلى أنه مع ممانعة السلطة الفلسطينية والأردن، لم يحصل الزعماء العرب المؤيدون للتوجّه الأميركي، على امتيازات من شأنها دعم موقفهم في مواجهة شعوبهم، مشددة على أن خطوة ترامب نقل سفارة بلاده إلى القدس واعتبارها عاصمة لإسرائيل أسهمت بشكل كبير في عرقلة كافة المخططات.
أما الحدث الثاني، فهو زيارة مدير المخابرات المصرية عباس كامل إلى واشنطن ولقاؤه بوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو وعدد من مسؤولي مكتب ترامب، وما تزامن مع الزيارة من تسريب إعلامي حول اتجاه الإدارة الأميركية لصرف 195 مليون دولار من المعونة السنوية لمصر والمجمّدة منذ 11 شهراً، بحجة ملاحظة واشنطن تطوراً في تعامل الحكومة المصرية مع ملف حقوق الإنسان، على الرغم من عدم حل أي مشاكل من التي أثارتها الولايات المتحدة سابقاً، كقضية التمويل الأجنبي للمنظمات الحقوقية، وتخفيض عدد السجناء، واستمرار قمع الإعلام والنشطاء.
أما الحدث الثالث فهو بدء زيارة وفد من حركة "حماس" للقاهرة أمس الإثنين، في جولة جديدة من المباحثات المشتركة، والتي تضمّنت اتصالات هاتفية بين رئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية، وعباس كامل منذ أيام في واشنطن، حول التعاطي مع مقترحات مبعوث الأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط نيكولاي ملادينوف، وما ناقشه كامل مع المسؤولين الأميركيين حول سبل تحسين الأوضاع الإنسانية في غزة، وموقف الحركة والسلطة الفلسطينية من مقترحات "صفقة القرن".
وتعكس هذه التحركات والمواقف المتزامنة انتكاسة لمسار التفاوض حول شروط وأفكار "صفقة القرن"، بل فقدان بعض عرابيها، وعلى رأسهم محمد بن سلمان، قدرتهم على تسيير المفاوضات في اتجاه يواكب الأفكار الأميركية التي جرى تداولها العام الماضي في الغرف المغلقة، واعترض عليها الفلسطينيون ثم الأردن علناً خلال الشهرين الماضيين، وتحديداً تمويل السعودية والإمارات لمشاريع تنموية ضخمة في غزة والضفة الغربية، مقابل تنازل الفلسطينيين نهائياً عن حق العودة، وعن شرط تفكيك المستوطنات.
وأضافت المصادر أن ملف التعاطي المصري مع "صفقة القرن" تم سحبه من ديوان الخارجية وأصبح في يد عباس كامل وحده، باعتباره جزءاً من الملف الفلسطيني الذي تم تغيير إدارته بالكامل داخل جهاز المخابرات العامة، وأن عباس كامل على الصعيد الشخصي "ليس متحمساً للمضي قدماً في تلقي مقترحات غير عملية من واشنطن، وأنه تحدث في هذا الخصوص للمسؤولين الأميركيين خلال زيارته الأخيرة، بل إنه أصدر تعليمات لوسائل الإعلام المصرية، وعلى رأسها شركة "دي ميديا" التي يديرها مباشرة، بتوجيه انتقادات للأفكار الأميركية غير الواضحة والتي قد يترتب عليها العصف بحلم الدولة الفلسطينية".
وأوضحت المصادر أن من بين أسباب عدم ترحيب مصر بالأفكار الأميركية "غير المكتملة"، أنها منفصلة عن الواقع الفلسطيني بشكل كبير، خصوصاً داخل قطاع غزة، وأنها تطالب مصر بدور يفوق قدراتها في ضبط الأوضاع الأمنية في القطاع مستقبلاً، متجاهلة قوة "النظام الحمساوي" من الداخل. فضلاً عن عدم تقديم أي تعهدات واضحة بتقديم دعم مالي لمصر يمكّنها من إدارة المشاريع التنموية المقترح إنشاؤها بين غزة ورفح والعريش لتنمية موارد القطاع وتشغيل مواطنيه، في ظل تردد واشنطن في تقديم دعم مالي ولوجيستي وعسكري لتطهير شمال شرق سيناء بالكامل من فلول تنظيم "ولاية سيناء" الموالي لـ"داعش".