أوروبا وتصفية سليماني: فيض كأس التهميش الأميركي

10 يناير 2020
دعا ماكرون وجونسون وميركل للتهدئة بعد مقتل سليماني(ستيف بارسونز/Getty)
+ الخط -
هل خرجت أوروبا، ككتلة سياسية واقتصادية، من نادي صانعي السياسات الدولية؟ سؤال يطرح منذ مدة في مراكز الأبحاث الأوروبية، بعدما باتت أكثر ميلاً لدى البحث في التحديات العالمية المرافقة للقرن الواحد والعشرين، إلى تعداد إخفاقات القارة. ويتصاعد شعور لدى الأوروبيين، منذ وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، بالعداوة للأمركة. وعلى الرغم من أنّ أياً من المواقف السياسية الرسمية الأوروبية، في القضايا الدولية الأساسية، لم يحد عن الفلك الأميركي، إلا أنّ تنامي التململ من جنوح واشنطن في عهد ترامب إلى تهميش القارة، أصبح ضاغطاً، من دون أن يتمخّض سوى عن انتظار أوروبي لمرور "العاصفة"، التي جسدها وصول الملياردير الجمهوري إلى السلطة. في هذه الأثناء، تبدو مصالح القارة الاستراتيجية في خطر. وفي حالة إيران تحديداً، ترى أوروبا كابوساً، قد يقود إلى حرب عالمية ثالثة، مع هامش ضيق للعمل، بعد انفلات تدريجي لمنطقة الشرق الأوسط من يدها، بل حتى ارتداده عليها منذ بدء الحرب السورية. مع مقتل قائد "فيلق القدس"، قاسم سليماني، وجدت أوروبا نفسها في موقع المتلقي، ومقارنة بـ"حلفاء" آخرين للولايات المتحدة، في درجةٍ "مهينة".

وليس صدفة أن ينشر مركز الأبحاث الأوروبي، "المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية"، قبل أيام معدودة، تقريراً مفصلاً حول خريطة التأثير الأوروبي في منطقة الشرق الأوسط. كان التركيز واضحاً، منذ فترة ليست بقصيرة، على "الخطر" الروسي، في الموقع، مع سؤال "هل روسيا عدوة أوروبا أم الولايات المتحدة؟". لكن التقرير، الذي تزامن مع مقتل سليماني بضربة أميركية في بغداد، وعلى الرغم من أنه معدّ مسبقاً، بدا وكأنه يضرب على الجرح الذي ألمّ بدول أوروبية وازنة في عهد ترامب. هذه الدول تدرك أنّ التوتر في المنطقة الممتدة حتى شمال أفريقيا، يصيبها في الصميم، بعبارات التقرير، لكنها في الوقت ذاته لم تكن يوماً "ضعيفة" بالقدر الذي هي عليه اليوم، لا سيما في القدرة على التأثير في الأحداث. ومع كل التهميش لـ"الحلفاء" التقليديين الذي مارسه ترامب، وشطبه بجرة قلم "إنجاز" الاتفاق النووي، الذي لا تزال فرنسا خصوصاً ترى نفسها بأنها عرابته، كان الانطباع الأوروبي لا يزال يفيد بأنّ سياسة الضغوط القصوى على طهران قد تؤتي ثمارها. وليس خفياً، أنّ باريس من المتحمسين لشمل الصواريخ البالستية الإيرانية بـ"تعديل" على الاتفاق الذي وقع عام 2015، وكذلك لجم نشاطها في المنطقة، ما جعل المرشد الإيراني علي خامنئي يصف الرئيس إيمانويل ماكرون بالمراوغ أو المتواطئ مع أميركا. لكن تصفية سليماني، التي جاءت مباغتة للأوروبيين، قلّصت تردداتها المحتملة ما يمكن لهؤلاء "لملمته"، ليصبح اهتمامهم متركزاً على خطر عودة الإرهاب، وتفلّته إلى القارة، وإنقاذ الاتفاق النووي. ومع أنه ليس غريباً أن يكون قادتهم تلقوا خبر اغتيال سليماني عبر الإعلام، إلا أنّ ذلك لم يشفع لهم في أن يفلتوا من التوبيخ، بعدما أعرب وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، عن أسفه لرد فعلهم على العملية، الذي جاء "غير داعم" لبلاده.

وكان أول اتصال أجراه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في اليوم الأول لاغتيال سليماني، هو مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، للتشاور، والدعوة للتهدئة، فيما لم تتواصل إيران مع أي دولة أوروبية، مباشرة إثر الحدث، الذي يهدد باشتعال المنطقة، والتي للأوروبيين قواعد عسكرية فيها، ومصالح استراتيجية، فضلاً عن أنهم يشاركون في "تحالف" محاربة "داعش". والأحد الماضي، تواصل ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ليخرجوا باتفاق على العمل معا من أجل التهدئة التي أصبحت "ملحة"، فيما طلبت لندن من بغداد السماح لقواتها بالبقاء في العراق، علماً أنّ ألمانيا تحضر لانسحاب في مارس/آذار المقبل.

ولا يذكر تقرير "المجلس الأوروبي" اغتيال سليماني، بل يدور في فلك إخفاقات أوروبا في التأثير على مجمل المتغيرات التي ألمّت بالشرق الأوسط منذ الأيام الأولى للربيع العربي، والتي "كلفتها غالياً". ويرى التقرير، أنّ الاتحاد الأوروبي، ودوله، "غائبون" كلياً عن سلسلة الأزمات المترابطة في المنطقة، والتي لديها تأثير قوي على مصالحهم. ويعتبر أنّ "قصة النجاح" الوحيدة لأوروبا خلال العقد الماضي، وهي الاتفاق النووي، تغرق في الحضيض، إذ إنّ الرد الأوروبي على انسحاب ترامب، فشل في تأمين الرصيد الاقتصادي والسياسي الذي يفي بالالتزامات الأوروبية لطهران. والأحد الماضي، أعلنت إيران دخولها المرحلة الخامسة من خفض التزاماتها النووية والتخلّي عن "كل القيود المتعلّقة بعدد أجهزة الطرد المركزي"، ما يعني دخول الاتفاق النووي رسمياً، في موت غير معلن، ما يجرّ باتجاه ارتفاع مؤشرات الذهاب نحو مواجهة عسكرية سعى الأوروبيون لتجنبها، ربما منذ أن تمسّكت باريس بشعار منع الانتشار النووي.

وأخيراً، يقول التقرير إنّ تلكؤ أوروبا في الانخراط بشكل أعمق وأكثر استدامة في المنطقة، منح روسيا، ومعها السعودية والإمارات وتركيا، وكذلك إيران، حرية العمل، وبناء التحالفات، محذراً من أنه إذا لم تتدارك أوروبا هذا الخلل سريعاً، فهي توشك أن تصبح معدومة الأهمية. وينصح مركز الأبحاث الأوروبيين، بعدم تفويت الفرصة المتاحة، بالانفصال عن التبعية للولايات المتحدة، ووقف الاستسلام إلى قيادتها.

وتنتظر إيران انتخابات تشريعية في فبراير/شباط المقبل، يبدو فيها المحافظون ذاهبين إلى فوز أكيد، تعزز بعد مقتل سليماني. في هذه الأثناء، كان الأوروبيون لا يزالون يعولون على فسحة أمل ضيقة في الإبقاء على الاتفاق النووي، أقله حتى موعد انتخابات الرئاسة الأميركية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. ويقول رئيس الوزراء السويدي السابق كارل بيلدت، لصحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، إنّ "الأوروبيين سعوا عقداً من الزمن لتجنب الحرب، لكن احتمال الحفاظ اليوم على الاتفاق أصبح ضئيلاً جداً، وكذلك هامش الدبلوماسية". بدورها، ترى ناتالي توتشي، مستشارة مسؤولة السياسة الخارجية السابقة للاتحاد الأوروبي، فيديريكا موغيريني، أنّ "الخشية كانت قبل الاغتيال أن تذهب إيران إلى رفع نسبة تخصيب اليورانيوم بحدود الـ20 في المائة، لكن اليوم من البديهي التنبؤ بأنها ذاهبة أبعد من ذلك"، متحسرة على أنه "كان على الأوروبيين أن يتحلوا بشجاعة أكبر"، ومذكرةً بأنّ "ماكرون حاول لثلاثة أشهر العمل على اقتراح الدفع المسبق لإيران مقابل مبيعاتها النفطية، لكن ترامب حسم الأمر بكلمة لا". وتعتبر توتشي، في حديث للصحيفة ذاتها، أن المحاولة "كانت عملية إلهاءٍ فرنسية كبيرة، أضاعت ثلاثة شهور، ومهما ستكون تداعيات قتل سليماني، فإنه ليس سوى تذكير للأوروبيين بضعفهم الجماعي في مواجهة سياسة واشنطن الأحادية".

بدوره، يقول السفير الفرنسي السابق في سورية، ميشال دوكلو، في تقرير نشر بموقع "مجلس الأطلسي"، إنّ مقتل سليماني وقع كصاعقة استراتيجية على أوروبا، حيث كان الافتراض العام أنّ الأميركيين كانت لديهم فرص كثيرة لقتل هذا "العدو"، لكنهم لم يفعلوا ذلك، أو يتركوا لإسرائيل القيام بالمهمة، لأنهم أيقنوا مراراً أنّ الكلفة ستكون باهظة، وهو ما لا تزال أوروبا تراه اليوم. أما بالنسبة إلى باريس، فإنّ أكثر ما يقلقها هو الانسحاب الأميركي من العراق، لإيلائها محاربة "داعش" الأهمية القصوى. وبنظره، فإنّ هذا الأمر الوحيد المتبقي لأوروبا لتشغل بالها فيه، في منطقة تواصل فيها روسيا وتركيا وإيران وإسرائيل والولايات المتحدة أجنداتهم وحروبهم، مضيفاً أنه من زاوية أخرى، فإنّ ترامب، فقد بالنسبة للأوروبيين آخر مصداقية له، حيث يبدو كـ"نمر من ورق". ومع افتراض أنّ الرئيس الأميركي قد يكون بإمكانه "إعادة التوازن لقوة الردع" الأميركية في المنطقة، بعد إسقاط الإيرانيين لطائرة مسيرة أميركية في هرمز في يونيو/حزيران الماضي، وضرب منشآت "أرامكو" في سبتمبر/أيلول الماضي، وحماية القوات الأميركية البالغ عددها تقريباً 52 ألف جندي وضعفاها من المتعاقدين، فإنّ الأمر ليس كذلك بالنسبة للحلفاء.

ويبقى أخيراً الانقسام الأوروبي حول إيران، وما يرونه "نشاطاتها المزعزعة" في المنطقة، ما ولّد جفاءً متصاعداً، وغياب ثقة متبادلة، حتى مع محاولة ماكرون تغليب البراغماتية، إثر انحياز سلفه فرنسوا هولاند الكامل للمحور السعودي – الإماراتي، حين كان التكامل أكثر جلاءً بين الإليزيه والكيه دورسيه (وزارة الخارجية الفرنسية) في التشدد بالملف الإيراني. وفيما تنطلق بريطانيا في حقبة ما بعد "بريكست"، يرى الوكيل الدائم السابق لوزارة الخارجية البريطانية سيمون فريزر، في حديث لـ"نيويورك تايمز"، أنه "بصراحة... على الفرنسيين والألمان، التفكير لأنفسهم".

المساهمون