الجزائر... الدبلوماسية وجثة الجغرافيا

08 يناير 2020
عطّل بوتفليقة الجهاز الدبلوماسي بشكل كامل (بلال بن سالم/Getty)
+ الخط -
تتحسس الجزائر موقعها على الخريطة مجدداً، بعد فترة راكدة من الدبلوماسية الجوفاء التي لم تكن تتجاوز البيانات الرسمية واللقاءات العابرة التي لا تخلف موقفاً. دبلوماسية حولت البلد إلى جثة من الجغرافيا الثقيلة العاجزة عن التحرك حتى في مجالها. من أكبر المصائب التي خلفها الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة في الجزائر تعطيله بشكل كامل للجهاز الدبلوماسي، الذي تحول إلى جهاز بيروقراطي فاقد لكل فعالية، ولا يملك أية قدرة على تقدير الموقف، واقتراح خطط تساهم في حفظ دول الجوار، باعتبارها امتداداً طبيعياً للأمن القومي للبلاد، في وقت كانت تعج دول الطوق بتخمة من المشاكل والأزمات.

يكفي للدلالة على تجمد الموقف والوضع الدبلوماسي ذِكر أنه طيلة 20 سنة من حكمه، لم يقم بوتفليقة بزيارة دولة إلى أي من دول الجوار، لتطوير العلاقات أو التأسيس لخيارات إقليمية أو فتح منافذ للتجارة والاقتصاد. رئيس لم يزر تونس سوى في مناسبتين، هما جنازة الرئيس الحبيب بورقيبة وقمة المعلوماتية عام 2005. ولم تطأ قدماه المغرب سوى في جنازة الملك الراحل الحسن الثاني، ولم يزر تشاد ومالي والنيجر وموريتانيا حتى، وكل زياراته إلى ليبيا كانت تتعلق بمؤتمرات الاتحاد الأفريقي.

تدفع الجزائر الآن ثمن هذا التجمد الدبلوماسي، وثمن اختراع كذبة سياسية، تحولت مع الوقت إلى نكتة ساخرة "القوة الإقليمية"، وثمن صناعة دعاية مضللة عن "تصدير تجربة الجزائر في مكافحة الإرهاب"، وتأثيث الإعلام الرسمي والموالي بمحللين مرتبطين بالنسيج العسكري والأمني، كانوا يطرحون تصورات ومقاربات واهمة للرأي العام، فيما كانت الجزائر تعمد إلى حراسة حدودها الجنوبية مع ليبيا مثلاً بشكل تقليدي، إذ إنها تتعاطى مع القبائل والأعيان عبر مقايضة المساعدات التموينية بالأمن.

لا أثر للجزائر في مالي وتشاد، اللتين تسلمتهما فرنسا، ولا في ليبيا التي تتقاتل فيها دول وجيوش لأجل البر والبحر والمنافذ والنفط والغاز، ولا أثر للجزائر في موريتانيا التي غزتها الصين وتركيا والمغرب اقتصادياً، ولا حتى في الجارة تونس. هذا هو واقع الحال، وبالتأكيد سيكون مكلفاً بالنسبة للجزائر كسر هذا الجمود والمزاحمة على موقع في الفضاء الإقليمي الذي تحتله قوى خارجة عن هذا الفضاء أصلاً.

المشكلة أن هذه المزاحمة لم تعد تعترف بالثقل الجغرافي والحدود الإدارية حين تطور مفهوم الأمن القومي، فصار مجال أمن دولة يبدأ من حدود ثاني أو ثالث دولة ما بعد حدودها، ولم يعد يعترف بالثقل العسكري وحده إذا كان الأخير حارس بوابة ومتفرجاً على الجوار. ولم يعد يعترف بسياسة النأي بالنفس والمبادئ الطوباوية للدبلوماسيات العتيقة التي انتهى عصرها. المزاحمة في الفضاءات الإقليمية باتت تتخطى النوايا، وتغيرت في زحمتها المبادئ واختلطت المصالح مع مقتضيات الحال. أشياء كثيرة يجب أن تتغير في الدبلوماسية الجزائرية، في علاقتها بالجغرافيا السياسية، وفي المبادئ التي تقيد حركتها، وأدوات العمل والتعامل مع القضايا الإقليمية، وفي صناعة التوازنات في المنطقة والدفاع عن المصالح المحلية، وفي الكوادر التي تعيش زمنها السياسي بالدرجة الأولى.
المساهمون