حظر تصدير الأسلحة الألمانية للسعودية: دفع لتغليب المصالح الأوروبية وتجاهل المبادئ الإنسانية

02 مارس 2019
كارينباور: "الاشتراكي" يعرض صناعة الدفاع والوظائف للخطر(جون ماكدوغال/فرانس برس)
+ الخط -


تضغط فرنسا وبريطانيا على ألمانيا من أجل إعادة النظر بموضوع رفضها استئناف صادرات الأسلحة، التي تحوي أنظمة ألمانية، إلى دول ثالثة، خصوصاً السعودية، وذلك في إطار محاباة بعض الدول الأوروبية للرياض. وتأخذ الضغوط على برلين مسارين، الأول داخل الكتلة الأوروبية، وتقوده خصوصاً باريس ولندن، أما الثاني فهو داخلي ألماني، يتعلق بخصوصية النظام الألماني، والوضع الاقتصادي للبلاد.
وذكرت وكالة "رويترز" أن باريس ولندن تقودان مجموعة من دول الاتحاد الأوروبي، تعارض إدراج السعودية على قائمة سوداء لتبييض الأموال وتمويل الإرهاب. وقال دبلوماسيان من الاتحاد الأوروبي للوكالة إن حكومات بالاتحاد قد تمنع تبني قائمة سوداء لتبييض الأموال، تضم السعودية وبويرتوريكو وثلاث مناطق أخرى تابعة للولايات المتحدة، وذلك بموجب إجراء تم تفعيله أول من أمس.

كذلك، تلوح بوادر معركة سياسية داخل ألمانيا، مع اتهام الزعيمة الجديدة لحزب الاتحاد الديمقراطي الحاكم، أنغريت كرامب كارينباور، للحزب الديمقراطي الاشتراكي بتعريض صناعة الدفاع والوظائف في البلاد للخطر برفضه تخفيف موقفه بشأن شحنات الأسلحة للسعودية. لكن الحكومة الألمانية لا تزال ترفض مطلب بريطانيا وفرنسا باستئناف صادرات الأسلحة إلى دول ثالثة خارج الاتحاد الأوروبي ودول حلف شمال الأطلسي، ما يعرض صادرات الأسلحة لشركاء الدفاع الأوروبي والمشاريع الأوروبية المشتركة في مجال تطوير التسلح للخطر. ونقلت مجلة "دير شبيغل"، أمس الجمعة، عن مصادر قولها إن الحكومة الألمانية ستمدد لأسبوعين وقف صادرات الأسلحة للسعودية والذي كان مقرراً أن يستمر حتى التاسع من مارس/آذار. وأوضحت أن المستشارة أنجيلا ميركل ووزير المالية أولاف شولتز، الذي يشغل أيضاً منصب نائب المستشارة، اتفقا على ذلك. وأعلنت الحكومة الألمانية أنها ستتخذ قرارات بشأن قرارها وقف شحنات الأسلحة للسعودية قبل نهاية مارس/آذار الحالي، ما يعني على الأرجح أن الحظر الراهن سيُمدد بعد الموعد المفترض لانقضائه في التاسع من مارس. وقال المتحدث باسم الحكومة شتيفن زايبرت إن قيادات الحكومة تدرك ضغط الوقت وهي ملتزمة بأن تحل هذا الشهر تلك المسألة التي سببت انقساماً في الائتلاف الحاكم.

وتركت سياسة حظر التصدير، المعتمدة من قبل ألمانيا حيال السعودية، انزعاجاً أوروبياً وشكوكاً حيال مدى التزام برلين بالشراكة في مشاريع صناعات الأسلحة وإمكانية اعتبارها شريكاً غير موثوق به في المستقبل. الجدال فرض نفسه أيضاً على المستوى الوطني، خصوصاً من جانب حزب "الخضر" لرفضه المطلق تجاهل الشق الإنساني في تلك العمليات، وما أثبته التحقيق الاستقصائي لقناة "دويتشه فيله" أجرته بالتعاون مع قناة "بايريشر روندفونك" ومجلة "شتيرن" ومكتب تحقيقات استقصائي في هولندا، ويظهر عمليات رصد عبر "تويتر" و"يوتيوب" و"غوغل إرث" ولقطات لتقارير إخبارية تبرهن استخدام أسلحة وتكنولوجيا ألمانية الصنع في حرب اليمن. وفي هذا الإطار، دعا الخبير في شؤون السياسة الخارجية في حزب "الخضر" أوميد نوريبور، في حديث مع "دويتشه فيله"، ألمانيا إلى إنهاء الشراكة الاستراتيجية مع السعودية، معرباً عن استغرابه كيف لا يوجد رقابة على ما تم بيعه من أسلحة إلى دول ثالثة، علماً أن الرد كان دائماً بأن عمليات بيع الأسلحة لطرف ثالث تتم وفق ضمانات من تلك الجهات، طبقاً للاتفاقات الموقعة وفق الأصول القانونية والمبادئ التوجيهية التي تحظر بيعها أو نقلها إلى دول تشهد نزاعات مسلحة أو أي مجموعات أخرى في بلد آخر. واعتبر أنه إذا لم تتم مراقبة الوجهة النهائية التي تصل إليها الأسلحة، إن في مالي أو السعودية أو أي جهة أخرى، فعندها يجب التفكير فيما إذا كان بمقدورنا الاستمرار في عمليات تصدير الأسلحة.

إلى ذلك، تلقى الدول التي تدفع ألمانيا للتخفيف من قيودها المفروضة على تراخيص صادرات الأسلحة انتقادات عدة. وذكرت صحيفة "فرانكفورتر نويه بريسه" إن "دار مناهضة الحرب"، وهي جزء من تحالف يضم 74 مؤسسة من تسع دول أوروبية، انتقدت وجود استثمارات عسكرية بمليارات اليوروهات لأبحاث الأسلحة والتعاون العسكري مع دول ثالثة. ودعا رئيس مجلس إدارة "دار مناهضة الحرب" ألفين هولسر الموقعين على مشروع الاتحاد الأوروبي الخاص بهذا النوع من الاستثمارات إلى زيادة الاستثمار في حل النزاعات، منتقداً الاستثمار في أبحاث التسلح، قبل أن يحث على إطلاق حملة تواقيع قبل الانتخابات الأوروبية المقررة في مايو/أيار لإنقاذ مشروع السلام.


وفي هذا السياق، قال المرشح الرئيسي لحزب "الخضر" للانتخابات الأوروبية سفين غيغولد، لوكالة الأنباء الألمانية، "لا شك أننا في الاتحاد الأوروبي نحتاج إلى مزيد من التعاون بين الدول الأوروبية، بما في ذلك المجال العسكري، إنما لا تجوز التضحية بحقوق الإنسان عبر اعتماد سياسة متساهلة في تصدير الأسلحة". وكانت "دير شبيغل" ذكرت في تقرير أن هناك اتفاقاً سرياً بين ألمانيا وفرنسا تم في 14 فبراير/شباط الماضي، منحت برلين بموجبه باريس حصة كبيرة من حرية البيع لبلدان ثالثة في مشاريع الأسلحة المشتركة. ودافعت وزيرة الدفاع الألمانية فون دير لاين عن الاتفاقات المبرمة مع فرنسا بما يتعلق بقواعد التصدير، مشددة على أن الورقة تم إنضاجها بالتعاون مع وزارة الخارجية الألمانية التي يقودها الاشتراكي هايكو ماس. ويبدو أن ماس، وفق تقارير صحافية، يعمل منذ أسابيع على إنضاج استراتيجية لإرضاء الشركاء المتعثرين في أوروبا، في محاولة منه ومن حزبه للتوفيق بين الطموح والواقع، مع إصراره على رفض التخفيف من عمليات الحظر على تصدير الأسلحة والتي تم التوافق بشأنها عند تشكيل "الائتلاف الكبير" في مارس/آذار 2018. واتهمت كارينباور، أمس الجمعة، الحزب الديمقراطي الاشتراكي بتعريض صناعة الدفاع والوظائف في البلاد للخطر برفضه تخفيف موقفه بشأن شحنات الأسلحة للسعودية. وقالت كارينباور، لصحيفة "آر إن دي"، إن الائتلاف وافق على إلزام صناعة الأسلحة الألمانية بقواعد أكثر صرامة، لكنها أكدت أنه "من الخطأ الشديد تفسير تلك القواعد بطريقة تخفض الصادرات إلى الصفر". واعتبرت أنه إذا كان ذلك هدف "الاشتراكي" فعلى الحزب أن يخرج ويوضح نواياه للشركات المتضررة والعاملين فيها.

كل هذا يؤكد أن هناك عوامل وأسباباً جوهرية تدفع للضغط الفرنسي والبريطاني على ألمانيا، بعد تحول النزاع من سياسي إلى اقتصادي بحت، ولأن المصالح الاقتصادية تتقدم على السياسة والمبادئ الإنسانية. يشار إلى أن التجمع الأوروبي بني أساساً على المنافسة بين فرنسا وألمانيا على النفوذ والسلطة في القارة العجوز، مع وجود حل وسط دائماً. لكن يبدو أن العام 2019 سيكون مثقلاً بالأعباء، لأن الاتحاد الأوروبي، الذي يقترب من انتخابات برلمانية، يتخبط جراء معضلة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فيما تنمو الأحزاب اليمينية المتطرفة، وسط تزايد العداء من الخارج، وعليه يبقى التضامن الأوروبي أولوية، وأي انطباع معاكس يشجع القوميين الأوروبيين، وكذلك خصوم الاتحاد في واشنطن وموسكو وبكين على مواصلة الضغط. وكان المدير التنفيذي لشركة "إيرباص" توم آندرز انتقد أخيراً السياسة التقليدية الألمانية بشأن تصدير الأسلحة لأنها تقوض سياسة التعاون الأوروبية المشتركة. وشدد آندرز، في مقابلة مع وكالة "رويترز"، على أن "حجب برلين تسليم قطع غيار لطائرات يوروفايتر سيكون سبباً لتوقف شحنات إلى السعودية"، معتبراً أنها "تظهر نوعاً من المبالغة الأخلاقية التي تُحبط بشكل متزايد دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، كما أنها تتجاهل المصالح الأمنية لشركائها". هذا الأمر لفت إليه أيضاً العديد من المحللين، انطلاقاً من أن السياسة الأخلاقية الألمانية لحظر تصدير الأسلحة لها حدود لأن التعنت قد يقوض الثقة مع حلفائها، وهذه ليست طريقة لمتابعة استراتيجية مشتركة، خصوصاً مع الحلفاء الأقرب في مجال الدفاع كفرنسا وبريطانيا، الممتعضتين حالياً من التفرد الألماني ومن التأخير بتسليم القطع المطلوبة. كما أن هناك مصلحة أوروبية في الشرق الأوسط تتمثل بألا يميل ميزان القوة بين الرياض وطهران لصالح الأخيرة.

ويمكن التمييز بين ثلاثة أمور تتحكم بسياسة التسلح الألمانية، الأولى اقتصادية، وتعتمد على الرهان على مستقبل غير مريح ويتسم بديناميكية متزايدة للتطورات الجيوسياسية والتكنولوجية، وهو ما يحتم الالتزام بمسار طويل الأجل واستثمار في البشر والمعدات، خصوصاً أن عملية تطوير وتصنيع وإنتاج الأسلحة بطيئة للغاية، وغالباً ما تستمر عقوداً، وبناء عليه فإن بناء وتوسيع القدرات يتطلب الاحتفاظ بالموارد المالية على المدى الطويل. وتحل ثانياً معضلة السيادة، إذ يتعارض، في كثير من الأحيان، هدف الكفاءة الاقتصادية والفاعلية العسكرية مع السيادة الوطنية. أما الأمر الثالث، فهو خصوصيات النظام السياسي والاجتماعي الألماني، التي تتناقض مع سياسة التسلح والصناعات العسكرية، وهو على النقيض من العديد من جيرانها الأوروبيين. مع العلم أن النقاش حول موضوع التسلح تقليد سياسي في ألمانيا بسبب العديد من التحديات السياسية والأخلاقية والصناعية والمالية، ما يدفع في كثير من المرات لتغليب المصلحة الوطنية للبلد، التي تخضع في العادة للتسويات السياسية في وقت لاحق، علماً أن صحيفة "دي تسايت" ذكرت أخيراً أن نحو ثلث الألمان يرفضون، من حيث المبدأ، تصدير الأسلحة.