ومن الواضح أنّ الحرب التي يزجّ فيها النظام والمليشيات الموالية له، بإسناد روسي، بكل طاقاتهم، هدفها الأول هو السيطرة على الطريقين الدوليين انطلاقاً من ريفي حلب الجنوبي والغربي، كمحور رئيسي أول، ومن ريف إدلب الجنوبي الشرقي كمحور رئيسي ثانٍ، والالتقاء عند مدينة سراقب، ومن ثمّ الإكمال غرباً باتجاه أريحا وجسر الشغور.
وسراقب، التي يحاول جنود الضامن التركي إبعادها عن سيطرة قوات النظام ومسانديها لا تزال مهددة بالسقوط بيد قوات النظام، التي تحاول فرض طوق حولها، مع تقدمٍ بات أبطأ في اليومين الماضيين. إلا أنّ توغل هذه القوات غرب المدينة باتجاه النيرب، والوقوف على مسافة قريبة من سرمين، أقرب المدن إلى مركز المحافظة (مدينة إدلب)، جعل حوالي مليون مدني من سكان مدينة إدلب والنازحين إليها يتوجسون من خطر الامتداد إليهم من قبل قوات النظام ومسانديها، وسط ضرب النظام بدعم من موسكو عرض الحائط بالتفاهمات بين موسكو وأنقرة، قاضماً جزءاً كبيراً من "منطقة خفض التصعيد" (إدلب وما حولها).
وبالوصول إلى النيرب، فإنّ الطريق بات شبه مفتوح أمام النظام نحو مدينة إدلب، إذ تفصله عنها قرابة 8 كيلومترات، ولم يبقَ أمامه سوى معسكر وقرية المسطومة جنوباً، وبلدة قميناس في الجنوب الشرقي، وبلدة سرمين في الشرق.
ورجّحت مصادر مطلعة أن تقوم قوات النظام بتثبيت مواقعها في بلدة النيرب على الطريق الدولي (حلب – اللاذقية)، قبيل التقدّم باتجاه بلدة قميناس التي تقع على بعد 3 كيلومترات عن مدينة إدلب، وتعدّ آخر خطوط الدفاع خارج المدينة.
وتبقى جدية تركيا بالحفاظ على ما تبقى من "منطقة خفض التصعيد" رهن تحركها عسكرياً أو دبلوماسياً للحيلولة دون دخول قوات النظام إلى مدينة سراقب، التي ستكون، في حال السيطرة عليها، قاعدة خلفية لهذه القوات لدعم تقدمها غرباً أو شمالاً، لتوسيع دائرة السيطرة بشكل أكبر.
وفي أحدث تصريحات له، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، اليوم الثلاثاء، خلال لقاء مع عدد من الصحافيين عند عودته من أوكرانيا، تعليقاً على التطورات الأخيرة في شمال غربي سورية، واستهداف جنود أتراك ومقتل عدد منهم، إنه "ليست هناك ضرورة للدخول في نزاع مع روسيا خلال هذه المرحلة، لدينا معها مبادرات استراتيجية جادة للغاية". وأضاف أنّ الاعتداء على الجنود الأتراك "يعدّ انتهاكاً لاتفاقية إدلب، وبالطبع ستنعكس نتائج هذا الاعتداء على النظام السوري". وكانت النقطة التركية على أطراف سراقب قد تعرّضت لقصفٍ من قبل قوات الأسد فجر أول من أمس الاثنين، ما استدعى رداً عسكرياً تركياً استهدف قوات النظام.
وتابع أردوغان قائلاً: "أعتقد أنّ العمليات التركية أعطت درساً كبيراً لهؤلاء (النظام)، لكننا لن نتوقف، سنواصلها بالحزم نفسه". وفيما يخص نقاط المراقبة التركية الموجودة في إدلب، قال أردوغان إنّ هذه النقاط "لها دور مهم جداً، وستبقى هناك، ونجري التعزيزات اللازمة".
وفي سياق متصل، بحث أردوغان، اليوم، مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، مستجدات الأوضاع في كل من سورية وليبيا، وذلك خلال اتصال هاتفي جرى بينهما، بحسب بيان صادر عن رئاسة دائرة الاتصال في الرئاسة التركية.
من جهته، قال وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو، إنّ بلاده ستواصل الرد على النظام السوري إن كرّر استهدافه القوات التركية في إدلب. وأوضح في كلمة له اليوم خلال اجتماع تحت عنوان "آسيا من جديد" بخصوص سياسة تركيا الخارجية: "لا يمكننا البقاء مكتوفي الأيدي حيال الهجمات التي تستهدف قواتنا في إدلب، قمنا بالرد وسنواصل الرد إن تكررت". وتابع: "تقع على عاتق روسيا مهمة كبيرة في إيقاف وقاحة نظام الأسد التي زادت في الآونة الأخيرة".
واعتبر جاووش أوغلو أنّ "الجروح بدأت تصيب مساري أستانة وسوشي (حول سورية)، ولكنهما لم ينتهيا تماماً"، مؤكداً أنّ "العذر الروسي بعدم قدرته على التحكم بالنظام السوري بشكل كامل، ليس صائباً". وشدد على أنّ "ما يجب فعله عاجلاً، هو وقف هجمات النظام وإتاحة الفرصة لعودة النازحين إلى ديارهم"، مشيراً إلى أنه "كنا ننتظر مواصلة النظام هجماته للسيطرة على إدلب بحجة وجود إرهابيين فيها".
في المقابل، حمّل وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أنقرة، مسؤولية التصعيد، قائلاً إنه "للأسف، في هذه المرحلة لم يتمكن الجانب التركي من الوفاء ببعض الالتزامات الهادفة لحل المشكلة في إدلب جذرياً". وأشار لافروف إلى أن تركيا لم تتمكن من "فصل المعارضة السورية المسلحة، التي تتعاون مع الأتراك والمستعدة للحوار مع الحكومة السورية في إطار العملية السياسية، عن إرهابيي جبهة النصرة التي تحاكيها هيئة تحرير الشام". ودعا أنقرة إلى "الالتزام الصارم" بالاتفاقات التي توصل إليها رئيسا البلدين رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين في سوتشي.
يحصل ذلك وسط كارثة إنسانية يعيشها النازحون الذين خرجوا من معرة النعمان وسراقب وريفهما شرق وجنوب إدلب، وقبلهم آلاف النازحين الذين تركوا منازلهم شمالي حماة وخان شيخون، وكل الذين حزموا أمتعتهم في سرمين وأريحا وبنش وخرجوا باتجاه الشمال، أو يهمّون بالخروج مع تقدّم المعارك نحوهم.
ونزح أكثر من نصف مليون شخص وفق الأمم المتحدة جراء التصعيد العسكري لقوات النظام وحليفتها روسيا في شمال غرب سورية. وقال المتحدث الإقليمي باسم مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة، ديفيد سوانسون، لوكالة "فرانس برس": "منذ مطلع ديسمبر/كانون الأول الماضي، نحو 520 ألف شخص نزحوا من منازلهم، ثمانون في المائة منهم من النساء والأطفال". وأوضح أنّ "أعمال العنف شبه اليومية لفترات طويلة أدت إلى معاناة مئات الآلاف من الناس، الذين يعيشون في المنطقة، بشكل لا مبرر له".
من جهتها، أفادت وكالة "الأناضول" بنزوح حوالي 40 ألف مدني من إدلب باتجاه الحدود التركية خلال اليومين الأخيرين بسبب هجمات النظام السوري وحليفته روسيا.
ويجعل كل ذلك من ملف النازحين على الحدود السورية – تركية أزمة كبيرة، ليس على تركيا فقط التي باتت تخشى تدفق مزيدٍ من اللاجئين إلى أراضيها، وإنما على المجتمع الدولي والأوروبيين على وجه التحديد، الذين يضغطون على أنقرة للحدّ من وصول اللاجئين إلى دولهم انطلاقاً من الأراضي التركية. وهذا ما سيفتح الباب في الأيام المقبلة على عدد من الاحتمالات والسيناريوهات، بهدف الحد من مشكلة النازحين أو إيقاف المعارك، ضمن صياغة اتفاق جديد، بعد الإعلان غير الرسمي عن موت مخرجات تفاهمات أستانة، وانهيار اتفاق سوتشي حول إدلب ومحيطها، خصوصاً في حال استمرار تركيا بالتعامل ببرود مع التطورات المتسارعة، وعدم تقديم موقف أكثر صرامة عسكرياً ودبلوماسياً لإيقاف هجمات النظام.
وربما يتلخص السيناريو الأول بالسماح للنظام بالسيطرة على كامل طول الطريقين الدوليين ومحيطهما، مع بقاء النقاط التركية في مكانها، والتي لا تزال منتشرة في "منقطة خفض التصعيد". ثمّ التفاهم بعد ذلك بين روسيا وتركيا على صيغة جديدة تقضي بانسحاب قوات النظام مع بقاء شرطة عسكرية روسية، لتنفيذ دوريات مشتركة مع الأتراك على طول الطريقين الدوليين، والسماح بدخول بعض دوائر الدولة ولا سيما إلى مدن معرة النعمان، وسراقب، وأريحا، وجسر الشغور. ويجعل هذا الوضع عودة المدنيين أمراً ممكناً، بضمانٍ تركي – روسي لعدم السماح لقوات النظام البقاء في تلك المناطق، وتخلي الروس عن شرط إدخال الشرطة المدنية التابعة للنظام إليها، والتي يندرج ضمنها عناصر الأمن والمخابرات، وهذا الشرط كانت تركيا قد رفضته مراراً.
أمّا السيناريو الثاني، فيكمن باستمرار الأوضاع على ما هي عليه، مع تحرّك تركي جدي لتقديم دعمٍ حقيقي لفصائل المعارضة، بهدف صدّ هجمات قوات النظام والمليشيات، استناداً إلى موقفٍ أميركي مؤيّد لتركيا حيال إدلب، والذي كان واضحاً من خلال تصريحات المبعوث الأميركي إلى سورية جيمس جيفري أخيراً بتحذيره الأتراك من عدم الوثوق بالروس في ما يخصّ إدلب وشرق الفرات، والتأييد الأميركي الأخير لأنقرة على حقها بالردّ على النظام، بعد قصف قوات الأخير لنقطة تركية، ما أدى إلى مقتل ستة جنود أتراك.
ويتمثل السيناريو الثالث، وهو الأسوأ، ببقاء الأوضاع على ما هي عليه، من دون تحرّك تركي أو غربي لدعم الفصائل للدفاع عن نفسها وعن المدنيين في إدلب. وهذا ما سيجعل اتخاذ قرار تجاوز الحدود بأي تكلفة كانت أمراً حتمياً ولا بديل عنه من قبل النازحين الموجودين بالملايين في إدلب، ما سيتسبب بأزمة، يتطلب حلّها إجماعاً دولياً.
وكان نشطاء ومدنيون في إدلب ومحيطها قد دعوا، الأحد الماضي، إلى تظاهرة على الجدار الفاصل بين سورية وتركيا، تحت عنوان "من إدلب إلى برلين"، حيث تجمعوا بالمئات قرب الحدود من دون السماح لهم بالعبور من قبل حرس الحدود التركي. وكان هؤلاء يرمون من ذلك إرسال رسائل إلى تركيا والمجتمع الدولي، بالوقوف إلى جانبهم في ظلّ الجرائم اليومية التي يرتكبها النظام والروس بحقهم، بالإضافة إلى دفع الفاعلين الدوليين لإيقاف حملة التهجير والإبادة، وإلا فإنّ تجاوز الحدود سيكون آخر العلاج.
من جهته، حمّل رئيس المكتب السياسي لـ"لواء المعتصم"، التابع للجيش الوطني، مصطفى سيجري، "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً) مسؤولية وصول الوضع الحالي في إدلب إلى ما آل إليه من توسّع للنظام والروس، الذين اتخذوا من "الهيئة" ذريعة لتقدمهم، وفيما بعد عدم سماح الأخيرة لأعداد كبيرة من المقاتلين بالوصول إلى الجبهات. وعلى الرغم من سماحها أخيراً بذلك، إلا أنّها وضعت فيتو على كثير من القيادات والفصائل بشأن المشاركة في معارك إدلب، وفق سيجري.
وأضاف المتحدّث نفسه في حديثه مع "العربي الجديد" أنّ "الوضع الميداني صعب جداً والعوامل الخارجية والداخلية تساهم في خسارة المزيد من المناطق، ولكن نسعى مع حلفائنا الأتراك لوقف هذه الهجمة الإرهابية، وبكل تأكيد نظام الأسد يسعى للسيطرة على كل شبر من الأراضي السورية ولن يقف عند حدود معينة".
وأشار سيجري إلى أنّ "النظام يحاول أن يستثمر في الخلافات التركية – الروسية، وما كان له أن يتقدّم بهذا الشكل لولا تلقيه دعماً حقيقياً من قبل الاحتلال الروسي، فالأخير هو من يمهد في الجو، ومن يدير غرفة العمليات الميدانية هم الروس، ومن يحرك المليشيات الإيرانية على الأرض هم الروس كذلك. وبالتالي، هناك فارق كبير في موازين القوى، ونحن الآن لا نواجه نظام بشار الأسد، ولكن نواجه ثاني أكبر قوة عسكرية في العالم وهي روسيا، بالإضافة إلى إيران القوة الإقليمية الأكثر إرهاباً، وبالتأكيد لا نتملك ما يمتلكونه من إمكانات عسكرية ولوجستية". وتابع أنه "في ظلّ هذا الفارق الكبير في موازين القوى وسياسة الأرض المحروقة التي يستخدمونها، سيكون ذلك مدعاة بالنسبة لنا كقوى ثورية إلى ابتكار طرق جديدة في المقاومة، وسحب قوات العدو إلى معارك استنزاف، ولن نسمح بفرض الرؤية الروسية في سورية، وبأن تكون ولاية إيرانية. وبالتالي، في المرحلة المقبلة، سنسحب قوات النظام والاحتلال الروسي لمعارك طويلة الأمد في مناطق تكون الغلبة فيها للفصائل. ففي الوقت الذي تريد فيه روسيا حسماً سريعاً، فإننا سنجعل المعركة أطول".
وتضمّ "منطقة خفض التصعيد" كامل محافظة إدلب وأجزاء من أرياف حماة الشمالي، وحلب الغربي والجنوبي، واللاذقية الشرقي، وتخضع لتفاهمات مباحثات أستانة بين الضامنين الثلاثة (روسيا وتركيا وإيران)، ولاتفاق سوتشي الذي أبرم بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان في سبتمبر/ أيلول 2018. إلا أنّ قوات النظام تقدّمت بدعم روسي وإيراني جنوب المنطقة، في معارك امتدت بين إبريل/ نيسان وأغسطس/ آب من العام الماضي، وقضمت جزءاً كبيراً من ريفي حماة الشمالي وإدلب الجنوبي الواقعين ضمن حدود المنطقة. واستأنفت قوات النظام معاركها في أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي جنوبي شرق إدلب، وسيطرت على أكثر من 50 مدينة وقرية، أهمها مدينة معرة النعمان، ووصلت إلى عمق المحافظة بالوقوف على تخوم مدينة سراقب، ولا تزال المعارك مستمرة.