تشهد مختلف المحافظات التونسية حركة سياسية كبيرة، على ضوء اقتراب موعد تقديم القوائم للانتخابات المحلية، منتصف فبراير/شباط المقبل، على أن تجرى الانتخابات في 6 مايو/أيار المقبل. وانتقل عدد من زعماء الأحزاب إلى أكثر من مدينة، لبدء الحشد الشعبي للمعركة الانتخابية، التي يعتبرها الجميع محطة سياسية فارقة في المسار التونسي، لأهميتها كتأسيس لحكم محلي، تريد الأحزاب أن تحتل فيه مكاناً من جهة، ولكونها أيضاً معياراً مهماً للاستحقاقين التشريعي والرئاسي العام المقبل.
لكن باستثناء حزبي "نداء تونس" و"النهضة" اللذين أعلنا عن تقدمهما في كل الدوائر الانتخابية الـ350، بقوائم حزبية خاصة بكل منهما، فإن بقية الأحزاب تبذل كل ما بوسعها للحضور في أكثر الدوائر، لكنها لن تكون موجودة في كل الدوائر، رغم محاولات متأخرة جداً للتقارب والائتلاف. ولم يتمكن 11 حزباً، يشكلون ما يسمى بالائتلاف المدني، من تجاوز عتبة الـ50 دائرة انتخابية، رغم أنها أحزاب تتصدر المشهد السياسي والإعلامي في تونس، وتنسب لنفسها قيادة المعارضة التونسية. وتشمل هذه الأحزاب، كلاً من "مشروع تونس" الذي يقوده محسن مرزوق، و"البديل التونسي" بقيادة مهدي جمعة، و"آفاق تونس" بقيادة ياسين إبراهيم، و"الجمهوري" بقيادة عصام الشابي، و"المسار الديمقراطي الاجتماعي" بقيادة سمير بالطيب، و"العمل الوطني الديمقراطي"، و"حركة تونس أولاً"، و"المبادرة الوطنية الدستورية التونسية"، و"اللقاء الديمقراطي"، و"الحركة الديمقراطية"، و"المستقبل". وانضم إليهم أخيراً أحمد نجيب الشابي، بحزبه الجديد "الحركة الديمقراطية". وكانت هذه الأحزاب أعلنت في بيان، في 26 ديسمبر/كانون الأول الماضي، عزمها التقدم للانتخابات البلدية ضمن قوائم موحدة في كل الدوائر الانتخابية، باعتماد مقاييس موضوعية تضمن مساحة واسعة للكفاءات الحزبية ولمختلف مكونات المجتمع المدني والمستقلين.
من جهة ثانية، أعلن الرئيس السابق ورئيس حزب "حراك تونس الإرادة"، المنصف المرزوقي، الأحد الماضي، أن حزبه جاهز لخوض غمار الانتخابات البلدية. وقال، في تصريح من الجنوب التونسي، إنه سيدخل سباق الانتخابات في قوائم مشتركة مع حزبي "التيار" و"التكتل". لكن الأمين العام لـ"التيار الديمقراطي"، غازي الشواشي، أوضح، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن هذا الائتلاف جزئي ويهم بعض القوائم فقط، لأن "التيار الديمقراطي" قرر الدخول في أغلب القوائم، بقوائم "تيارية"، أي باسم الحزب بنسبة 80 في المائة، مبيناً أنّ هناك قوائم أخرى ستكون باسم مستقلين لتمكينهم من المساهمة في الانتخابات المحلية، وأخرى مشتركة مع بعض الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية، والتي من ضمنها "حراك تونس الإرادة" و"حركة الشعب"، ولن يكون هناك ائتلاف موسع على مستوى وطني. واعتبر الشواشي أن هذا الائتلاف الجزئي سيسمح بإعطاء حرية الاختيار لبعض الجهات لتختار التوافقات التي تريدها، خصوصاً في الأماكن التي لا يمكن للحزب أن يشكل فيها قوائم موسعة باسمه، وبالتالي يكون الائتلاف هو الحل. وأعلنت "الجبهة الشعبية" أن عملية إعداد القوائم الانتخابية للانتخابات البلدية تسير على قدم وساق، بإشراف المجلس المركزي للجبهة الشعبية، التي ستخوض الانتخابات في أغلب الدوائر بقوائم خاصة بها، مع إمكانية مساندة قوائم مواطنية في بعض الدوائر، مؤكدة استعدادها لضم مستقلين إذا رغبوا في الانضمام إليهم.
لكن السؤال الذي يطرحه الجميع في تونس يتعلق بقدرة الأحزاب، المعارضة خصوصاً، على منافسة الحزبين الكبيرين، "نداء تونس" و"النهضة"، أم أن المنافسة ستقود الحوتين الكبيرين إلى ابتلاع هذه الحيتان الصغيرة، وسيطرتهما بالتالي نهائياً على المشهد المحلي والوطني، بما يحوّل الساحة إلى منافسة حصرية بينهما في المستقبل؟ ما يتأكد، حتى الآن على الأقل، هو أن هذه الأحزاب المنافسة فشلت، برغم محاولاتها، في التجمع في ثلاث أو أربع كتل كبيرة، يمكنها تجميع قواها والدخول في منافسة ندية مع هذين الحزبين. وسبق أن فشلت في ذلك في الانتخابات التشريعية والرئاسية الماضية، وفي انتخابات دائرة ألمانيا أيضاً، ما يثير المخاوف من تشتت الأصوات مجدداً، وهو ما يخدم القائمتين الكبيرتين، خصوصاً إذا تأكدت مخاوف العزوف عن المشاركة التي يحذر الجميع منها. لكن الأهم هو أن أغلب هذه الأحزاب تتقدم إلى هذه الانتخابات في حالة متدهورة، إذ إنها تعاني من أمراض الانقسام والخلافات. فـ"آفاق تونس" يمر بأصعب أزماته بعد استقالة وتجميد قيادات كبرى نشاطها بسبب ما تسميه انفراد رئيسها بالقرار، و"مشروع تونس" شهد موجة من الاستقالات بدوره. ولم تسلم حتى الأحزاب الجديدة والصغيرة من ذلك، فقد أعلن 9 أعضاء من المكتب التنفيذي لـ"حزب المستقبل"، الإثنين الماضي، استقالتهم من الحزب، بسبب ما اعتبروه حصر القرارات في دائرة ضيقة خارج الأطر والهياكل الرسمية وبسبب رفض الأمين العام للحزب، الطاهر بن حسين، جميع محاولات تصحيح المسار، وفق البيان.
وما إن أعلن الأحد عن تشكيل "اليسار الكبير"، حتى جاء الإثنين بتصريح لأحد مكوناته، "الحزب الاشتراكي"، تعليق مشاركته، في مبادرة توحيد اليسار إلى ما بعد الانتخابات البلدية، وأنه سيخوض الاستحقاق الانتخابي في 60 دائرة بلدية. كما أن بقية الأحزاب، مثل "البديل" و"الحركة الديمقراطية" وغيرها، تعتبر صغيرة، ولا تمثيل شعبي لها، ولا قدرة تنافسية حقيقية تمكنها من لعب دور محلي حقيقي، حتى الآن على الأقل. وبقطع النظر عن كون هذه الأحزاب ظاهرة صوتية لزعمائها ومؤسسيها وتحاول أن تلعب دوراً وطنياً من خلال الظهور الإعلامي في العاصمة وتراهن على مساراتها الشخصية، وربما أيضاً محاولة استنساخ ظاهرة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، فإن الحقيقة التونسية مختلفة تماماً، بالإضافة إلى أنه للانتخابات المحلية معايير أخرى تتعلق بالناس وبيئتهم وتفاصيل حياتهم اليومية، وقيامها على تكتلات عائلية وقبلية وجهوية مختلفة عن الرهانات الوطنية الكبرى. لكن يبدو أن هذه الانتخابات ستكون أيضاً أرضاً لمعارك سياسية وإيديولوجية لا علاقة لها بالشأن المحلي. وقد بدأت طبول هذه الحرب تدق، مع اقتراب اللجنة، التي شكلها الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، من تقديم مقترحات بشأن الحريات الفردية، وإطلاق بالونات اختبار بشأن رؤاها بما يتعلق بالإرث واللقب العائلي وغيرها، في توقيت يعتبر كثيرون أنه ليس بريئاً تماماً. وأمام هذا الضعف الحزبي، تراهن المعارضة على المستقلين لمنافسة "النداء" و"النهضة"، لكن الاثنين تفطّنا إلى هذا الأمر مبكراً، وحاولا استمالة واستقطاب عدد كبير منهم ودمجهم في قوائمهما الحزبية.