تبون يستحدث "الوكالات": إصلاحات أم تحكم بصناعة القرار؟

17 مايو 2020
يحاول تبون ترجمة مبدأ "الانفتاح الحذر"(رياض كرامدي/فرانس برس)
+ الخط -

ينوي الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون استحداث سلسلة وكالات حكومية تتولى رسم سياسات الدولة في قطاعات حيوية عدة، غير أن القراءات السياسية لهذه الخطوة تتباين بين من يعتبرها جزءاً من خطة إصلاح سياسي تستهدف تغيير نمط فاشل في إدارة الدولة منذ ستة عقود، وبين من يراها في سياق نسق من الترتيبات السياسية تضمن استمرار التحكّم في صناعة القرار. وكلّف تبون الحكومة ببدء وضع الدراسات اللازمة لتشكيل وكالة وطنية للطيران المدني، ووكالة وطنية للطاقة، ووكالة وطنية للابتكار، ووكالة الزراعة الصحراوية لاستصلاح ملايين الهكتارات الصحراوية لتطوير الزراعة الصناعية. وسبق لتبون أن أعلن في 14 إبريل/نيسان الماضي عن خطة لإنشاء وكالة الأمن الصحي تتكفل بحماية ووضع خطط استراتيجية للأمن الصحي، وإعادة النظر في النظام الصحي والتوزيع الجغرافي للأطقم الطبية في الصحراء.

في السياق، تكشف مصادر لـ"العربي الجديد"، أن فكرة الوكالات الحكومية تطاول أيضاً هندسة وكالة للأمن القومي، تجمع أجهزة الأمن والاستخبارات. وهو مشروع طرحه وزير الداخلية الأسبق نور الدين يزيد زرهوني عام 2010. غير أن هذا المشروع لا يبدو قابلاً للتنفيذ في وقت قريب، بل يحتاج إلى وقت أطول بسبب حساسية الملف الأمني في الجزائر، خصوصاً في ظل الظروف الراهنة. وتدرج بعض القراءات السياسية هندسة مجموعة من الوكالات الحكومية ضمن ترتيبات النظام السياسي لمرحلة الانفتاح الحذر والتغييرات الهيكلية والعلاقات بين مؤسسات الحكم، الرئاسة والحكومة والبرلمان، التي ستشهدها الجزائر بعد تعديل الدستور المقرر قبل نهاية السنة بحسب تبون. 



وفكرة الوكالات الحكومية لم تكن الأولى من نوعها في الجزائر، إذ سبقتها محطة مشابهة عشية العشرية السوداء (1991 ـ 2002)، تدخل في سياق الحسابات والترتيبات التي يجهزها النظام لإبقاء سيطرته على صناعة القرار وتلافي أي مفاجآت تخصّ إنشاء مجلس الأمة. فبعد فوز الإسلاميين بالانتخابات النيابية في ديسمبر/كانون الأول 1991 (كان مقرراً أن يتم الدور الثاني في يناير/كانون الثاني 1992، ولم يجر بسبب انقلاب الجيش واستقالة الرئيس الشاذلي بن جديد)، استوعبت السلطة الدرس وتَحَضَرت لسيناريوهات مشابهة مستقبلاً، فعمدت إلى تعديل الدستور في نوفمبر/تشرين الثاني 1996، قبل الانتخابات النيابية التي جرت في يونيو/حزيران 1997، والذي تضمن إنشاء مجلس الأمة، كغرفة ثانية للبرلمان، يعيّن رئيس الجمهورية ثلثي أعضائها (96 عضواً) وينتخب الثلث الثالث من قبل أعضاء المجالس البلدية والولائية المنتخبة بمعدل عضو عن كل ولاية (48 عضواً). وكانت المهمة المركزية لمجلس الأمة، إجراء قراءة ثانية للقوانين التي يقترحها البرلمان المنتخب وتعطيل مرورها، أو اقتراح تعديلات، في حال كانت مناوئة لخيارات السلطة، وبوجود مجلس الأمة ضمنت السلطة التحكّم في القوانين ومنعت أي مفاجآت تشريعية غير متوقعة.

لكن تفسيرات أخرى تضع خطة إنشاء "الوكالات" ضمن رؤية سياسية تستهدف كسر الكارتل المالي والسياسي المهيمن على دورة الاقتصاد والوظائف، وكسر التكتلات التي تشكلت مع مرور الوقت في بعض القطاعات السياسية والخدمية والاقتصادية، وهو ما يؤكده أستاذ العلوم السياسية في جامعة ورقلة جنوبي الجزائر مبروك كاحي، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، مضيفاً أن "خطة إنشاء هذه الوكالات تتعدى إلى المستوى الأوسط من الإدارة الحكومية، أي المديريات التنفيذية التي تتمتع بنفوذ قوي من الصعب حله، وتصنع نوعاً من التكتلات، أخذ بعضها طابعاً سياسياً واجتماعياً ومناطقياً أيضاً، لذلك يتمّ اللجوء إلى هذه الوكالات من أجل ضرب تلك التكتلات وخلق مسار آخر لتحقيق الانتعاش الاقتصادي". ويشير إلى المديرية العامة لشركة الخطوط الجوية، مثالاً على ذلك: "التي تحولت إلى تكتل اجتماعي يرتبط بتضامن قوي (توارث الوظائف)"، معتبراً أن إنشاء الوكالة الوطنية للطيران المدني قد يمهّد لكسر هذا الاحتكار، وخلق مسارات جديدة ودخول شركات خاصة، والتقليل من مركزية الأداء الاقتصادي.

ويلفت مبروك إلى أن "الاقتصاد الجزائري يعاني من تغوّل هذه التكتلات الاجتماعية، والرئيس تبون سيتجنب عبر الوكالات الحكومية الدخول في صراعات مع تلك التكتلات"، معتبراً أن "القيادة السياسية بدأت تلتفت إلى الدراسات الداخلية وتستغني عن استيراد التجارب، والأهم هو الإسراع في تشكيلها ما دام الاقتصاد العالمي متوقفا، والاقتصاد الوطني كذلك، لتكون الانطلاقة مواتية". ويشير إلى أن "الوكالات ستكون تحت سلطة رئيس الجمهورية لتفادي التداخل في الصلاحيات، وستساهم في إبعاد الاقتصاد عن التجاذبات والتغييرات السياسية، فالنمو الاقتصادي لا يتحقق إلا بالاستقرار وهذه الوكالات سوف تعمل على تحقيق ذلك. وكي تنجح هذه الوكالات لا بد من توزيع مقراتها عبر التراب الوطني، فالوكالة الوطنية للزراعة الصحراوية والتي تستهدف خلق المنافسة بين الشمال والجنوب بما يخدم الاقتصاد، يجب أن يكون مقرها ولاية جنوبية".

في سياق آخر، يأخذ التفسير التقني موضعه في فهم الخطوات السياسية لتبون، خصوصاً أن الرجل أمضى أكثر من ثلاثة عقود في مستويات مختلفة من إدارة الدولة الجزائرية، بدءاً من رئيس دائرة (مقاطعة) في السبعينات إلى رئيس حكومة عام 2017، مروراً بعمله في وزارات عدة، ما وفّر له دراية بالضرر الكبير للبيروقراطية المركزية وأمراضها السياسية. ويعتقد كثيرون أن تبون يرغب في نقل إدارة الدولة من نموذج الإدارة البيروقراطية المركزية الموروثة عن الاستعمار الفرنسي، إلى النموذج الأميركي الذي يقوم على سلسلة من الوكالات الحكومية، خصوصاً أن الرئيس الجزائري لا يفوت أي فرصة لإبداء انتقادات لكل الأساليب السياسية الفرنسية.